<
06 November 2019
ميشال إدّة المتحرّك في التاريخ والحاضر والمستقبل (جورج عبيد)

"غاب زمنه قبل أن يغيب هو"، بهذه الكلمة اختصر الكاتب سمير عطالله زمن ميشال إدّه، بل عرّف عنه على أنّه مكنون زمن كان فيه الرأي والفكر والموقف المدى، ومن رحمه كان التاريخ يتحرّك بمن يحرّكه. عاصرت ميشال إدّه معاصرة عميقة، ولا أزال أذكر اللقاء الأوّل في منزل فؤاد بطرس رحمه الله. ساعتان وأكثر أمضيناها على تلك الشرفة المطلّة على بحر بيروت في ذلك الحيّ العريق المليء بالنوستالجيا، نعبّ من الرؤى الصالحة، نغتني من الفكر المديد، ونستقرئ ما ينتظرنا من الآتيات خلف السطور، وقد كان بارعًا في القراءة والتحليل مرتكزًا على التاريخ ومطلاًّ من خلاله على ما يمكن التماسه في ما هو منظور وغير منظور. لم يعرف الرجل الاحتدام العبثيّ بل العقلانيّ، وفي كلّ مرّة كان يغلّف حواره وحضوره بابتسامته النقيّة وأناقته الراقية وفكاهته الزاهية ويجذب سامعه إلى أصالة طيّبة تنبع من محبته للعطاء والحياة. بهاؤه أنّه ياتي من إيمان حقّ، ربي عليه، وتمتّع به، وحفظه من السوء، وأدناه إلى لقاء المسيح في كلّ الوجوه وعمق الوجود.

أحباء كثر بعد فؤاد بطرس جمعونا، بيار حلو، غسان تويني، الرئيس حسين الحسيني، المطران جورج خضر، منح الصلح، فؤاد الترك... غير أنّه كان مأخوذًا دائمًا إلى المطران الأحمر غريغوار حدّاد، وميشال إدّه حينما أمسى وزيرًا سميّ بالوزير الأحمر. مرّة سألته: لماذا رضيت بهذا اللقب؟ فجاء جوابه على النحو التالي: أنا معجب بحركة المطران غريغوار حدّاد الاجتماعيّة والثوريّة، لم يأخذ هذا الرجل حقّه من كنيسته وما طلب شيئًا لنفسه، ثار على طغيات الأثرياء في الكنيسة والمجتمع وهو على حقّ ، وحين كان راعيًا لأبرشيّة بيروت، فرض على كهنته الاكتفاء فقط برواتبهم. وأكمل قائلاً: غريغوار لم يكن ماركسيًّا ولا أنا، قرأت كارل ماركس. وأعجبت بفكره الصارخ لكنّني رفضت استغلال فكره هنا وثمّة لضرب الإيمان والانقلاب على الله، أنا مؤمن بالعدالة الاجتماعيّة بين الجميع، وأحببت في لبنان فؤاد شهاب لأنّه شاء تجسيد الإنماء المتوازن بين المناطق اللبنانيّة، فلا يسوغ أن تثرى مناطق على حساب أخرى، هذا وحده ما أدنى لبنان نحو الانفجار فيما بعد، الفقر سبب لكلّ انفجار، فلا يجوز أن يظلّ البون كبيرًا بين الأغنياء والفقراء، نحن نفتقر إلى التعاطف والتعاضد، وغيابهما مصدر للانتفاضات والثورات في ظلّ عدم استثمار الثروات لصالح الإنماء. وفي بيان واضح أمامي قال غير مرّة أنا مؤمن بالمسيح الإله على أنّه وحده مسيح الفقراء، لم تجد أمّه مكانًا له لتلده، فدخلت المغارة وولدته، عاش فقيرًا من مكان إلى مكان، شفى المرضى أقام الموتى وظلّ فقيرًا، إلى أن انتهى على الصليب عاريًا... من قرأ العظة على الجبل لا سيّما إنجيل الدينونة، فهم ما معنى محبّة المسيح للفقير والمحبوس والمتروك والمرذول في هذا الوجود. الرئيس شارل حلو وأنا سعينا نحو مطاعم المحبّة وأنشأناها بحب وكرم، لأنّنا مؤمنون بوجود المسيح في هؤلاء المتروكين على قارعات الطرق بلا محبّة ولا حنان.

هذا الفكر المتوّثب عنده، وهو بدوره المتوثّب به، كان المطرح لسجوده أمام الله. العطاء بلا حدود سجود، المحبّة سجود، كان يفرح ببناء الكنائس لأنها مطارح سجود، ودرّته كانت كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للموارنة في بيروت حيث سكب فيها قلبه وماله. مرّة مازحني قائلاً: أنا أتنافس مع صديقنا غسان، (ويقصد غسان تويني) على محبّة مار جرجس، هو عند الروم وأنا عند الموارنة، وسنرى أيهما الأجمل كنيسة الروم أو كنيسة الموارنة؟؟؟ نظرت إليه وقلت له، أنا أعرف انك بعيد كلّ البعد عن تلك الحواجز المذهبيّة، فالموارنة كالروم مشارقة، والله يرى في كلّ جمال طقوسيّ ومعماريّ، وله وحده السجود هنا وهناك. قاطعني وقال مأساة بعضنا، (أي الموارنة)، أنهم لم يروا ما رأيناه نحن غسان وأنا من الصحافة إلى الأرض إلى حرصنا المشترك على تفعيل إيماننا بأصالته في بيروت، نختلف في التفاصيل ولكنّنا نلتقي في المبادئ. كان ميشال حريصًا كلّ الحرص على إعادة الموارنة إلى أصالتهم وجذورهم. كان يعنيه فكر الأب يواكيم مبارك، ويعتبره حركيًّا وإصلاحيًّا، كما كان متعاطفًا في الوقت عينه مع فكر الإمام المغيّب موسى الصدر في الدائرة الشيعيّة. يستند إلى يواكيم مبارك معلنًا غير مرّة بأنّ الموارنة في غربة عن ذاتيتهم لأنهم لم يفهموا فكر هذا الكاهن المتواضع والعالم في آن، ولم يدركوا لغة الأب ميشال حايك وثورته الهائلة، ولم يفقه المسيحيون بصورة عامّة الرؤى العظيمة المكنونة في فكر المطران جورج خضر... مشكلتهم جميعًا أنّهم لم ينظروا نحو الشرق ويحصّنوه بما فيه الكفاية ويحموا فلسطين الجريحة ويحيطوها بما عندهم من رؤى متكاملة.

هذا الفكر عند ميشال إدّه مشتله فلسطين. وكان على وجه العموم حريصًا على دراسة الأدبيات الإسرائيليّة والعبريّة ويكثر من التمحيص بها وشرحها بدءًا من التوراة. ثم يعلن جهارًا بأن لا يستهن أحد بالمفهوم الصهيونيّ لأرض الميعاد وهيكل سليمان، إنّه مفهوم يتحرّك في أزمة الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، كما يتحرّك في أزمة الصراعات العربيّة والمذهبيّة. كان يصرّ على أن المجتمعات التعدديّة المتجانسة والمتآزرة خطر وجوديّ على إسرائيل، وقد استند على كبار المفكرين عندهم، وهو على حقّ. لم تستطب إسرائيل الأنموذج اللبنانيّ، كما أنّها لم تستطب وجود حركات قوميّة بطوابع إيديولوجيّة كالحزب السوريّ القوميّ بشكل خاصّ، أو على إطار ما رنا إليه منح الصلح، لكونها نماذج تقزّم الأطروحة الصهيونيّة بآحاديتها المطلقة. ففلسطين عندهم غير موجودة والفكر العربيّ يجب أن يتأزّم أو يبقى دائم التأزّم والانحطاط لينتهي بالحروب المذهبيّة. من هذه الناحية كان ميشال إدّة رؤيويًّا منفتحًا، وغالبًا ما تظهر قراءته علميّة مستندة إلى مجموعة مراجع. لقد تعلمت منه ومن صديق آخر هو الدكتور نداء أبو مراد، بأنّ ثمّة بونًا بين السياسيّ Politicien والمفكّر السياسيّ Politologue فالرجل السياسيّ عنده صاحب مصالح، أمّا المفكر السياسيّ فصاحب رؤية، ويقول: نحن نحتاج لأصحاب رؤى، لمفكرين ينحتون الرؤى، السياسة في فرنسا قامت في جذورها على أصحاب الرؤى، لقد كان أندره مالرو عقل شارل ديغول وفكره... لقد ضاعت فلسطين وتقزّم الدور اللبنانيّ لأننا غرقنا في وحول المصالح، ولم نرتق نحو الرؤى المنجيّة من الفساد والموت.

حين انتخب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة، بدا الرجل فرحًا ومغتبطًا. لقد رآه رؤيويًّا على اتساق كبير وبعد نظر. قبل ذلك، أعجب كثيرًا بخطوتين جوهريتين، وهما:
-زيارته إلى سوريا، وقد قرأها استراتيجيّة في المعنى والمبنى. لقد أسرّ لكثيرين من أصدقائه، بأنّها فتح سامٍ يصبّ في مستوى إعادة الاعتبار إلى العلاقات اللبنانيّة-السوريّة، واستطرادًا إلى العلاقات المسيحيّة-السوريّة. فالمسيحيون مشارقة، وأنطاكيا لا تزال ناطقة، والأهم في هذه الصيغة أنّ ميشال عون وبقراءة ميشال إدّه حرّر المسيحيين وبخاصّة الموارنة من كلّ انعزال أشعل الحروب ورماهم في خسائر فادحة.
-توقيع وثيقة التفاهم بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، وهي المؤسسة لعلاقة استراتجيّة متينة بين مكونين كبيرين للبنان ستؤمّن المتانة والمناعة لكليهما، لتصير هذه الوثيقة عنده حجر زاوية للبنان جديد. فأمين عام حزب الله أمّن زعامة إسلاميّة وعربيّة، والعماد ميشال عون أمّن زعامة مشرقيّة راقية، واللقاء بينهما ران دومًا نحو مستقبل لبنان والمشرق، ويستفيد منه كثيرون.

لقد قرأ ميشال إدّه بأنّ الخطوتين المذكورتين مصدران كبيران لقوّة لبنان ومنعته بوجه إسرائيل الغاصبة. وهما المنطلقان للحفاظ على وحدة لبنان، ويملكان القدرة لإحياء القضيّة الفلسطينيّة بقوّة، وفي الأحداث السوريّة راى ميشال إدّة بان وثيقة التفاهم تجسدت في لبنان وسوريا معًا وهي دائمة السريان هنا وهناك.

ميشال إده قامة مضيئة من عالم وزمن جميلين راقيين. سمير عطالله على حقّ بقوله "غاب زمنه قبل أن يغيب هو" زمن الرفعة والنهضة، زمن الأنوار المنسكبة فوق تراب بيروت وعاليه وبعبدا، زمن الأصالة الحقيقيّة... كلّه غاب. لكن ما يعزينا بأن ميشال إدّه الحبيب بما تركه من إرث سيبقى نابضًا في التاريخ والحاضر والمستقبل. يكفي للمرء أن ينظر إلى قلب بيروت لؤلؤة المتوسّط ليرى وجه هذا الحبيب على قبّة وكنيسة مار جرجس في بيروت أيقونة نقيّة باسمة.

ميشال إدّه إلى اللقاء في زمن جميل آخر، أو في كنيسة فردوسيّة ترنّم فيها ترنيمة جديدة، والسلام عليك في رحلتك المطيّبة بالنعمة والحقّ.