<
31 August 2019
الرئيس عون : إن بشائر التغيير والانتصار في معركة مكافحة الفساد بدأت تلوح في الأفق

أيتها اللبنانيات، أيها اللبنانيون،
أتوجّه إليكم اليوم لأُعـلِن بِدء ذكرى مئوية إعلان لبنان الكبير الذي يصادف في أول أيلول مِن العام 1920، تمهيداً لانطلاقة الاحتفالات بهذه المناسبة ابتداء من الأول من كانون الثاني 2020 وحتى نهاية السنة . 

أمّا لماذا هذه الاحتفالات، فلأن هذا الحدث شكّل في حينه اعترافاً دولياً ثميناً بالكيان اللبناني الناشئ، ونواة قيام لبنان بحدوده الحالية، وطناً سيداً حراً، وقد دفع أجدادنا الكثير من التضحيات والمعاناة لبلوغه. 

وفي خضم الأحداث والخضات التي عاشها وطننا في العقود الأخيرة، فإن استذكار تاريخنا بكل ومضاته ومعاناته ضروري لأن الشعوب التي تنسى تاريخها تكرّر أخطاءها وتهمّش دورها وتخاطر بمستقبلها.

من العام 1516 الى العام 1918 اربعة قرون، مضافة اليها سنتان، عاشها جبل لبنان في ظل الاحتلال العثماني، وعلى الرغم من تميزه بنوع من الاستقلال الذاتي، إلا أن شعبه قاسى الكثير وتقلّب شكله السياسي ما بين الإمارة والقائمقاميتين والمتصرفية، وتغيّرت مساحته وامتداده تبعاً للظروف السياسية، فيما كان باقي المناطق اللبنانية مسلوخاً عنه تماماً وخاضعاً للحكم العثماني المباشر ومقسماً على مناطق الولاية.

كل محاولات التحرر من النير العثماني كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية. إن إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الاولى، أودى بمئات الاف الضحايا ما بين المجاعة والتجنيد والسخرة، من دون أن ننسى أعواد المشانق التي ارادوا من خلالها القضاء على روح التحرر والتمرد.

أضف الى ذلك ضرب كل التنظيمات والمؤسسات الإدارية والأمنية الناشئة التي أرساها نظام المتصرفية بعد ما نقضه جمال باشا وأقال المتصرف أوهانس باشا.
   
ومع انتهاء تلك الحرب، وهزيمة العثمانيين ودخول لبنان تحت النفوذ الفرنسي، بدأت مرحلة جديدة من تاريخنا، وصلنا معها الى لبنان الكبير في العام 1920، ثم الاستقلال.           
لا شك في أن جبل لبنان شكل الركيزة الأساس التي قامت عليها دولة لبنان الكبير، فكان القلب الذي اعاد جمع الجسم بكامله، بعدما استعاد المناطق المسلوخة عنه. 
إن بداية نشوء لبنان الكبير كانت عبر المؤسسات والتنظيمات الإدارية والقضائية والمالية والأمنية، التي أرستها السلطات الفرنسية تمهيداً لإعلان الدولة. فالمؤسسات هي وحدها الضامنة للوطن وهي الركائز التي تقوم عليها أسس الدولة القوية والقادرة.

واليوم، ومع بدء ذكرى مئوية اعلان لبنان الكبير التي شُكلت من أجلها لجنة عليا أنيطت بها مهمة تنظيمها، أشدد على ضرورة  إيلاء كل النشاطات الخاصة بهذه المناسبة أهمية كبرى لتثقيف أجيالنا الطالعة تاريخياً ووطنياً، 

علّموهم تاريخ لبنان؛ فشعبنا في النهاية لا يستكين أمام الاحتلال أو الوصاية، وليس صدفة أن يكون  لبنان الصغير بمساحته الجغرافية، في منطقة شاسعة الامتداد، ومتعددة بشعوبها وعاداتها وتاريخها، منارة للديمقراطية، ومنبراً للفكر الحر، وحقلاً لتفاعل الثقافات، ومركزاً للإبداع.

علّموهم كيف أن الطائفية هي مرض مدمّر، يستعملها أعداء الوطن كلما أرادوا ضربه فينفذون من خلالها الى مجتمعنا، يفتتونه ويصبح أهلنا وقوداً للاقتتال الداخلي الذي يخلّف في كل مرة جراحاً وندوباً لا تشفى بسهولة.

ومع الأسف، ترسخت الممارسات الطائفية في دماء اللبنانيين، وعروق المؤسسات، ونمط الحكم، ولم نصل بعد إلى مرحلة من التفاهم الداخلي والوعي يكون القانون فيها هو الضامن لحقوق الجميع بالتساوي، والكفاءة هي المعيار. وهذه هي المناسبة المثلى، لأعلن كرئيس للجمهورية، ايماني بضرورة الانتقال من النظام الطائفي السائد الى الدولة المدنية، العصرية، حيث الانتماء الأول هو للوطن وليس للزعماء الطائفيين.
 
علمّوا أجيالنا الناشئة أن الوحدة الوطنية صون للوطن، لسيادته ولأمنه ولازدهاره. فعلينا جميعاً أن نتعلم دروس الحرب القاسية، حين اقتتل أبناء الوطن الواحد لسنوات، ظنَّ فيها كل طرف أن في مقدوره الانتصار على الطرف الآخر، أو تهميشه، أو دفعه إلى التبعية. ولم يبزغ فجر الحل والسلام، إلا حين تغلب منطق الوحدة والعيش المشترك، على فتنة الانقسام والتفتت.
وليتعلموا أيضاً أن بقاء الأوطان هو في بقاء سيادتها. نقولها للعالم أجمع إن لبنان هو بلد محب للسلام ولا يسعى إلى الحرب، لكن شعبه لم يتراجع يوماً ولن يتراجع أبداً، أمام أي محاولة للاعتداء على سيادة الوطن، والمس بكرامته وسلامة أراضيه.
 
ولعل ما حصل قبل أيام من اعتداء اسرائيلي سافر على سيادتنا، والموقف الجامع الذي اتخذه اللبنانيون برفضه وادانته مع تأكيد حقهم المشروع في الدفاع عن وطنهم، أبلغ دليل على تمسكنا بالثوابت التي تحفظ كيان الدول وحقوقها.

لبنان ليس أرضاً مستباحة لأيّ كان، ولم نصل إلى مناسبة الاحتفال بهذه المئوية لو لم نثبت للقاصي والداني، أننا قادرون على دحر أعتى الجيوش عن أرضنا، والحفاظ على استقلالنا ورسالتنا الحضارية.

علموا الجيل الطالع أيضاً أن المؤسسات هي ركيزة الدولة القوية وحصانتها، فإن نخرها الفساد فعلى ماذا سنرتكز؟
هذه هي المعركة الكبرى التي نخوضها اليوم، معركة مكافحة الفساد، وإن ظن بعضهم أننا عاجزون عن تحقيقها أو يدفع لعرقلتها،  فليبقَ لشبابنا الأمل بالمستقبل، فلا يهجرون وطنهم وهو أنقاض نتيجة انهيار المؤسسات تحت وطأة الفساد. وأقولها بكل ثقة، إن بشائر التغيير والانتصار في هذه المعركة بدأت تلوح في الأفق.
علّموهم أن لبنان كبير، ليس بمساحته وجغرافيته، إنما بحضارته وقيمه، 
كبير بدوره ورسالته، وعليهم أن يعملوا ويجهدوا ليبقى كبيراً.

لبنان الكبير نريده لمئة سنة أخرى، ولألف سنة، بلد الاشعاع، والحريات، وتفاعل الحضارات، والديمقراطية، والابتكار، والتنوع، وأرض الايمان والتراث. 
وعلموهم أخيراً أن لبنان مهما تقلّبت الظروف سيبقى اكبر من أن يبلع وأصغر من أن يقسّم.

عشتم، عاش لبنان