HI,{{username}}
Manage account
Change password
HEADLINES
{{headlineCount}} new {{headlineCount == 1 ? 'update' : 'updates'}}
+ MORE HEADLINES

"المدن" تكشف رواية جديدة وصادمة عن الساعات الأخيرة لغازي كنعان: انتحار أم تصفية؟

10
NOVEMBER
2025
  • {{article.caption}}
  • {{article.caption}}
A
+
A
-
Print
Email
Email
A
+
A
-

المدن -

رجلٌ مُحيّر... لا يمكنك أن تقرأ أو تفهم تعابير وجهه. وسيم، له عادات ثابتة في الاستقبال. يحكم على الناس بقبضة يده أثناء المصافحة بحرارة. ابتسامةٌ ودخانُ سيجار، ودفترٌ جلديّ لا يفارقه، يدون عليه ملاحظاته بعد أن ينصت إليك. نظراته حادّة، ثابتة، كأنها تُراقب ما وراءك.

صفاتٌ لازمت الرجل الذي تناقلت وكالات الأنباء اسمه في بيانٍ مقتضبٍ صادر عن وزارة الداخلية السورية في صباحٍ غير مألوفٍ من تشرين الأول/ أكتوبر 2005:

"انتحر اللواء غازي كنعان في مكتبه بوزارة الداخلية صباح اليوم".

جملة قصيرة أنهت حياة واحدٍ من أكثر رجال النظام السوري غموضاً ونفوذاً، لكنها لم تُنهِ الأسئلة.

ففي بلدٍ لا ينتحر فيه كبار الضباط إلا حين يسقطون من حسابات السلطة، بدا موت كنعان أشبه برسالةٍ خفيّة لا انتحاراً شخصياً.

انتحار يدفع إلى التساؤل: ماذا حدث حقاً في ذلك اليوم؟

تقرير الطب الشرعي تحدث عن رصاصة واحدة في الفم.

في مستشفى الشامي بدمشق ــ الذي يصفه السياسيون بأنه "مخصّص للاغتيالات المقنعة" ــ كان ابنه يضرب الجدار بعنف ويصرخ: "قتلوه"!

أمام جثمانٍ هامد لرجلٍ كانت الأرض تهتز تحت قدميه يوماً ما، بدا المشهد أشبه بطيّ صفحة من تاريخ لا يريد أحد قراءته علناً.

قبل "انتحار" ــ أو "نحر" ــ غازي كنعان، كما كشفت مصادر سورية موثوقة لـِ "المدن"، وصل إلى مكتبه ظرف مغلق أرسله "الرئيس المخلوع" نفسه.

الظرف احتوى على وثائق سرية تضم مراسلات واجتماعات خاصة تتعلق بعملية انقلابية كان كنعان يخطط لها ضد الرئيس بشار الأسد، بمساعدة مسؤول أميركي رفيع في القاهرة آنذاك، وبالتنسيق مع العماد حكمت الشهابي، رئيس الأركان الأسبق للجيش السوري، وعبد الحليم خدام، نائب الرئيس السابق الذي انشق لاحقاً عن النظام.

بعدها بقليل، وصل آصف شوكت ـصهر الرئيس ورئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك ــ إلى مقر وزارة الداخلية، وفق شهودٍ من داخل الوزارة.

وبعد هذا اللقاء مباشرة، أجرى كنعان مكالمته الأخيرة مع إذاعة "صوت لبنان"، ليقدّم تصريحاً مقتضباً سيُصبح لاحقاً أشهر كلماته الأخيرة. قال للصحفي على الطرف الآخر: "هذه قد تكون آخر تصريحاتي". ثم أضاف ببرود: "أحببت أن أوضح أن ما نشر عني غير صحيح... هذا للتاريخ".

 

ما بعد الموت

لم تُفتح تحقيقات جدية في ملابسات مقتله. لم يُعرض تقرير طبي، ولم ينشر بيان تفصيلي. في سوريا، الصمت أبلغ من أي توضيح. وفي لبنان، تراجعت الأسئلة خوفاً أو يأساً.

بعد أشهر، صدرت النسخة الأولى من تقرير ميليس، وورد فيها اسمه بين من "قد يمتلكون معرفة بالأوامر العليا" في اغتيال رفيق الحريري. لكن الرجل الذي كان يمكن أن يشرح كل شيء، لم يكن موجوداً بعد الآن.

يروى أن أحد حراس وزارة الداخلية في دمشق قال يوم الحادثة لجاره: "سمعنا صوت رصاصةٍ واحدة، لا أكثر".

رصاصةٌ واحدة أنهت عشرين عاماً من الملفات السرية، والولاءات المتشابكة، والعلاقات التي امتدّت من عنجر إلى دمشق فبيروت. لكنها لم تُنهِ الأسئلة.

من قتل غازي كنعان؟ هل انتحر لأنه لم يعد يحتمل؟ أم قُتل لأن النظام لم يعد يحتمله؟ ربما لن يُعرف الجواب أبداً.

غير أن "المدن" حصلت على معلومةٍ خاصة تفيد بأن سبع رصاصات كانت داخل جسد كنعان، لا رصاصة واحدة، وأن تصفيته جاءت بقرارٍ شخصي من الرئيس المخلوع، ونفّذها أحد مساعديه المقربين، الذي حصد لاحقاً مكاسب كبيرة ونفوذاً واسعاً.

ووفق المصدر نفسه، جرى ترتيب المشهد بحيث يُسمع صوت رصاصة واحدة فقط، في حين استُخدم كاتم الصوت في البقية.

رواية أخرى تحدّثت عن إجباره على الانتحار بعد مواجهة مباشرة داخل مكتبه.

معلومات قد تبدو متضاربة، لكن المؤكد أن موت كنعان كان إعلاناً غير مكتوبٍ عن نهاية مرحلة كاملة ــ مرحلة حكمت فيها دمشق لبنان من وراء ستار، وكان غازي كنعان هو ذلك الستار نفسه.

 

تصفيات وترهيب

تعدّدت الشكوك حول موت غامض لم يُغلق بوفاة صاحبه. فبعد أسابيع فقط، تلا ذلك رحيل آخر لا يقل غرابة: وفاة شقيق اللواء غازي كنعان في حادثة دهس بقطار، كما أعلنت الجهات الرسمية آنذاك.

لكن مصادر مطّلعة قالت لصحيفة المدن إن الحادث لم يكن عرضياً؛ بل تصفيةً مقنعة، بعد أن طلب من الشقيق تسليم ملفات سرّية كان كنعان قد احتفظ بها "أمانةً تاريخية" في منزله.

ووفق تلك المصادر، داهمت قوّة من المخابرات السورية منزله للبحث عن الوثائق، ثم اختفى الرجل ليُعثر عليه لاحقاً جثة على سكة القطار.

في المقابل، طُلب من العائلة ــ وخصوصاً من زوجة كنعان ــ عدم الإدلاء بأي تصريحات صحافية، مع التحذير من تواصل أبنائه مع وسائل الإعلام، لا سيّما أحدهم الذي كان يدرس ويقيم في الولايات المتحدة الأميركية.

في الوقت نفسه، تعهّدت عائلة الأسد بعدم التعرض لآل كنعان أو لأموالهم وممتلكاتهم، في صفقة صمتٍ واضحة أغلقت الملف إلى الأبد.

 

من بحمرا إلى بيروت

وُلد غازي كنعان في العام 1942 في قرية بحمرا التابعة لمحافظة اللاذقية، في أسرة ريفيّة تنتمي إلى الطائفة العلوية. درس في الكلية الحربية في حمص وتخرّج ضابطاً في سلاح المشاة في العام 1965. شارك في حربَي 1967 و1973، وكان آنذاك واحداً من مئات الضباط الصاعدين الذين يدينون بالولاء لحافظ الأسد، وزير الدفاع الذي سيصبح رئيساً بعد انقلاب عام 1970.

مع بداية الثمانينيات، كان الأسد الأب بحاجة إلى رجل موثوق يدير الملف السوري في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982؛ رجل يمسك بخيوط الميليشيات والسياسة والأمن في بلد مدمَّر ومنقسم.

اختار حافظ الأسد اللواء الشاب غازي كنعان، وأسند إليه قيادة جهاز الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان. ومنذ تلك اللحظة، صار اسم كنعان رديفاً للسلطة السورية في بيروت. وعلى مدى عقدين، كان الحاكم الفعلي للبنان تحت غطاء ما سُمّي آنذاك "التنسيق الأمني" بين الجيشين السوري واللبناني.

كان ضباطه يدخلون الوزارات، ويتحكّمون بتعيين قادة الجيش اللبناني، ويصوغون لوائح المرشحين في الانتخابات. كل من أراد شيئاً من دمشق، كان عليه أن يمرّ عبر مكتب غازي كنعان في عنجر، في سهل البقاع.

هناك، داخل مجمع رمادي تحرسه الدبابات والأسلاك الشائكة، كان يُقرّر من يُنتخب ومن يُنفى. كان كنعان دبلوماسياً على طريقته: هادئ النبرة، متحكّماً في التفاصيل، لا يميل إلى العنف المباشر مثل خلفه رستم غزالي.

ويُروى أنه كان يستقبل السياسيين اللبنانيين بابتسامةٍ ثابتة ودخان سيجارٍ كثيف، كمن يوقّع اتفاقات بلا أوراق. لكن تلك الابتسامة لم تكن ضمانة.

فمن يرفض الأوامر القادمة من دمشق كان يجد نفسه خارج اللعبة، أو خلف القضبان، أو تحت التراب.

في بيروت التسعينيات، كان كنعان بمثابة السفير الأمني لسوريا، يجلس إلى الطاولة نفسها مع رفيق الحريري وإميل لحود ووليد جنبلاط، ويدير بينهم اللعبة بذكاء جاف ومكر محسوب.

يقول أحد السياسيين اللبنانيين الذين عاصروه لاحقاً: "كنعان كان يعرف كل شيء. يعرف من ينام مع من، ومن يمول من، ومن يخطّط للغد. لم يكن يحتاج إلى تقارير...كان هو التقرير نفسه".

 

وزير داخلية

في العام 2002، استُدعي غازي كنعان إلى دمشق. بعض المصادر قالت إن الأسد الابن لم يعد يحتمل نفوذه المتضخم في لبنان، بعد أن صار الرجل يملك شبكةً من العلاقات تتجاوز حدود التكليف الأمني.

في المقابل، تحدّث آخرون عن وعدٍ قديم من حافظ الأسد بإشراكه في القيادة الداخلية، وأن بشار الأسد لم يفعل سوى الإيفاء بذلك الوعد.

لكن في كل الأحوال، كانت عودته إلى دمشق بداية الانحدار. فقد أُبعد عن دائرة الاستخبارات الخارجية، وعُيّن مديراً لإدارة الأمن السياسي، وهو منصب أقلّ نفوذاً بكثير مما اعتاده في بيروت.

ثم في تشرين الأول/ أكتوبر 2004، عُيّن وزيراً للداخلية خلفاً لعلي حمود.

جاء تعيينه في مرحلةٍ حسّاسة: بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وبدء انكماش القبضة السورية على بيروت، في حين كانت أصوات الاستقلال اللبناني تتصاعد.

وفي الوقت الذي حاول فيه كنعان أن يُعيد تقديم نفسه كوزير مدني بنفَس إصلاحي داخل دمشق، كانت رياح السياسة في لبنان تتغيّر بسرعةٍ لا تخدمه، ولا تُبقي له المكان الذي عرفه من قبل.

 

سقوط الحصن

في 14 شباط/ فبراير 2005، دوّى انفجار ضخم في بيروت أنهى حياة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.

وبعد أسابيع قليلة، وُجّهت أصابع الاتهام نحو دمشق، لتُنشأ لجنة تحقيق أممية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس. كان اسم غازي كنعان في صدارة من استُجوبوا.

سافر إلى فيينا في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، وأمضى ساعاتٍ طويلة أمام لجنة التحقيق. ووفق تسريبات لاحقة، بدا متوتّراً، حذراً في كلماته، كمن يوازن بين ولائه للنظام وخوفه من أن يُضحّى به.

وحين عاد إلى دمشق، كانت عيون الأجهزة الأخرى تلاحقه. في أروقة السلطة، صار يُهمس باسمه بريبة. الرجل الذي أمسك بخيوط لبنان طوال عقدين، صار يُعامل كخيطٍ مهترئ يمكن قطعه في أيّة لحظة.

بعد أسابيع، أعلنت الرواية الرسمية أنه "انتحر بطلقٍ ناري في فمه". لكن أحداً في دمشق أو بيروت لم يصدّقها.

في بلدٍ يُعدّ السقوط من النوافذ أكثر شيوعاً من الموت الطبيعي، بدت قصة الانتحار غطاء لتصفية سياسية صامتة. تزامنت وفاته مع اقتراب صدور تقرير ميليس الأول، وهذا ما جعل كثيرين يعتقدون أنه قُتل كي لا يتكلّم.

الصحافة اللبنانية وصفت الحادثة بأنها "انتحار بأمر"، في حين تحدّثت وسائل غربية عن "موت برواية جاهزة". أما السوريون، فصمتوا ــ كعادتهم أمام كل ما يذكرهم بأن النظام يأكل أبناءه حين يشاء.

 

شهادة من الظلّ

كتب أحد الصحفيين الغربيين بعد الحادثة: "كل الأنظمة التي تبني سلطتها على رجال الظل، تنتهي بأن تبتلع ظلها الأخير".

كان غازي كنعان هو ظل حافظ الأسد في بيروت، وامتداد النظام السوري في مرحلة شديدة الحساسية. لكن حين تغيّرت الظروف، تحول إلى عبء ثقيل وجب التخلّص منه. لم يكن أول من يُلغى بهذه الطريقة... ولن يكون الأخير.

في رواياتٍ لاحقة لمنشقّين ومسؤولين سابقين، قيل إن كنعان كان يحتفظ بملفاتٍ حسّاسة تتعلق بأموال سورية في لبنان، وبعلاقات استخباراتية معقّدة لا يرغب أحد في فتحها.

كما أُشير إلى أن علاقته بعبد الحليم خدام ــ نائب الرئيس الذي انشقّ لاحقاً عن النظام ــ زادت من الشكوك حوله وأعطت خصومه في دمشق مبرّراً جاهزاً لإقصائه.

 

إرث من الخوف

بعد موته، ورث رستم غزالي منصبه في لبنان، لكنه لم يرث حضوره ولا ذكاءه السياسي. وربما ــ كما يقول بعض العارفين بكواليس النظام ــ ورث مصيره أيضاً.

في الأحياء البيروتية التي كانت تعرف سيارات عنجر، تراجع الوجود السوري تدريجياً، حتى انسحب الجيش في أبريل 2005، قبل أشهر من موت كنعان. تزامن اختفاؤه مع اختفاء عصرٍ كامل من الوصاية السورية على لبنان.

لكن ذاكرته ظلّت حاضرة: ضابطٌ نحيل، هادئ النبرة، يجلس في مكاتب الوزراء اللبنانيين كمن يوزّع العلامات على تلاميذ مطيعين.

تأتي حادثة "انتحار" اللواء غازي كنعان لتُضاف إلى سلسلةٍ طويلة من الانتحارات الغامضة التي هزّت التاريخ السياسي السوري الحديث.

من بينها انتحار عبد الكريم الجندي في العام 1969، العدوّ اللدود لحافظ الأسد والعقبة الكأداء أمام صعوده إلى السلطة في العام 1970.

ثم انتحار رئيس الوزراء محمود الزعبي في 21 مايو 2000، خلال الأشهر الحاسمة التي سبقت وفاة الأسد الأب، ومهّدت لوصول ابنه بشار إلى الحكم.

هكذا، بدا "انتحار" كنعان امتداداً لتقليدٍ سوريٍ قديم: حين يصبح رجال النظام عبئاً على بقائه، ينتحرون... في التوقيت المناسب.

MORE ABOUT
ADVERTISE HERE
JUST IN
TRENDING
HEADLINES
{{headlineCount}} new {{headlineCount == 1 ? 'update' : 'updates'}}
+ MORE HEADLINES
TRENDING