في الوقت الذي يتواصل فيه الجدل الإقليمي والدولي بشأن مقترح نشر قوة دولية في قطاع غزة، تتخذ الساحة الفلسطينية الداخلية منعطفًا جديدًا مع صدور الإعلان الدستوري الجديد، الذي أعاد فتح النقاش بشأن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني ووحدة القرار بين الضفة والقطاع.
وبينما تتجه الأنظار إلى دور الولايات المتحدة وإسرائيل في رسم ملامح مرحلة ما بعد الحرب، يتقاطع هذا النقاش مع تحذيرات من محاولات "تدويل غزة" وفصلها سياسيًا عن محيطها الوطني.
من هنا، تتبدى صورتان متوازيتان ، حيث تُطرح القوة الدولية كأداة لإدارة ما بعد الصراع، والأخرى في السياسة، حيث يحاول الفلسطينيون إعادة ترميم بنيتهم الدستورية ومؤسساتهم.
لكن بحسب ما يراه كل من أحمد مجدلاني، الوزير السابق وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومدير تحرير صحيفة الأهرام محمد أبو الفضل، فإن الخيط الناظم بين المشهدين هو الصراع على القرار والسيادة.
قوة دولية أم وصاية جديدة؟
يُنظر في أروقة واشنطن وتل أبيب إلى فكرة نشر قوة دولية في غزة باعتبارها وسيلة "عملية" لملء الفراغ الأمني بعد الحرب، وتثبيت وقف إطلاق النار دون السماح بعودة حركة حماس إلى السلطة.
لكن أحمد مجدلاني حذر خلال حديثه إلى "غرفة الأخبار" على سكاي نيوز عربية من أن مثل هذا المقترح يفتح الباب أمام وصاية سياسية مموهة على قطاع غزة، قائلاً إن "أي وجود دولي خارج الشرعية الفلسطينية يعني عمليا تجاوزا لحق الشعب الفلسطيني في إدارة أرضه بنفسه".
وأضاف مجدلاني أن الموقف الفلسطيني الرسمي "واضح في رفض أي صيغة دولية تحل محل السلطة الوطنية أو تنتقص من صلاحياتها"، مشددا على أن الطريق إلى الأمن لا يمر عبر قوات أجنبية، بل عبر حل سياسي شامل يعيد غزة إلى الشرعية الوطنية وينهي الانقسام الداخلي.
أما أبو الفضل ، فذهب في تحليله إلى أن القوة الدولية المقترحة ليست سوى "امتداد للمقاربات الأمنية الأميركية الإسرائيلية"، مشيرًا إلى أن الهدف الحقيقي منها هو "ضمان أمن إسرائيل في المدى القصير، وإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بما يخدم الرؤية الإسرائيلية طويلة الأمد".
وبرأيه، فإن واشنطن تسعى إلى تثبيت واقع جديد في غزة يقطع الطريق أمام أي إعادة إعمار أو عودة سياسية لحماس، مقابل ترتيبات أمنية دولية تمنح إسرائيل "حدًا أقصى من الاطمئنان وحدًا أدنى من الالتزام".
الدور الأميركي الإسرائيلي: إدارة الأزمة لا حلها
يرى محللون أن الموقف الأميركي من القوة الدولية يعكس استراتيجية إدارة للأزمة بدل حلها. فواشنطن، بحسب مجدلاني، لا تبدو معنية بإطلاق عملية سلام حقيقية بقدر ما تهدف إلى تسكين الجبهة الفلسطينية بترتيبات مؤقتة تضمن الهدوء وتؤجل الأسئلة الكبرى.
وقال مجدلاني إن الإدارة الأميركية "تتعامل مع غزة بوصفها ملفا أمنيا وليس سياسيا"، مشيرا إلى أن أي مقاربة تتجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية مصيرها الفشل.
وتابع أن إسرائيل، في المقابل، تحاول استثمار فكرة القوة الدولية لتكريس واقع الانفصال بين غزة والضفة، بما يسمح لها بتفادي أي التزامات سياسية مستقبلية تجاه الدولة الفلسطينية.
أما أبو الفضل ، فاعتبر أن واشنطن تمارس "إدارة مزدوجة للملف الفلسطيني"، فهي من جهة تدعم حكومة تل أبيب سياسيا وعسكريا، ومن جهة أخرى تحاول تمرير ترتيبات ميدانية توحي بأنها تبحث عن الاستقرار. والنتيجة — وفق التحليل — هي تأبيد الوضع القائم مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام مفاوضات لا تفضي إلى دولة.
في موازاة ذلك، أعلن الجانب الفلسطيني عن الإعلان الدستوري الجديد، في خطوة وصفت بأنها إعادة تأسيسية للنظام السياسي الفلسطيني بعد سنوات من الجمود والانقسام.
ويرى مجدلاني أن هذا الإعلان "ليس مجرد تعديل شكلي"، بل هو محاولة "لإعادة بناء الشرعية الفلسطينية على أسس أكثر ديمقراطية وشفافية"، تمهيدًا لإعادة توحيد المؤسسات بين الضفة وغزة.
وأوضح أن الوثيقة الجديدة تسعى إلى "إصلاح العلاقة بين مكونات السلطة ومنظمة التحرير"، وإعادة ضبط التوازن بين السلطات الثلاث، بما يعيد الثقة الشعبية إلى النظام السياسي.
غير أن مجدلاني أقرّ بوجود تحديات عميقة تواجه هذا المسار، أبرزها استمرار الانقسام وغياب البيئة السياسية الملائمة لإجراء الانتخابات، إضافة إلى الضغوط الخارجية التي تحاول التأثير في شكل النظام القادم.
من جانبه رأى أبو الفضل أن الإعلان الدستوري يشكّل "خطوة رمزية أكثر منها عملية"، لكنه اعتبرها مهمة من حيث "إعادة إنتاج الشرعية في زمن التشظي السياسي"، مشيرًا إلى أن نجاحها مرهون بتوفر الإرادة السياسية والقدرة على تجاوز الانقسام.
وجهان لمسار واحد
عند قراءة المشهدين معًا — القوة الدولية في غزة والإعلان الدستوري في رام الله — يبرز سؤال جوهري: هل يسيران في اتجاهين متوازيين أم متناقضين؟.
مجدلاني يجيب بأن كليهما يعكس صراعًا على القرار الفلسطيني، أحدهما من الخارج عبر محاولات فرض وصاية دولية، والآخر من الداخل عبر سعي لإعادة صياغة الشرعية. "المسألة في جوهرها"، يقول، "هي من يملك حق تقرير المصير الفلسطيني: الشعب أم القوى الإقليمية والدولية؟".
ويرى أبو الفضل أن المسارين مترابطان في النتيجة، لأن أي ترتيب خارجي في غزة سيؤثر بالضرورة على التوازنات الداخلية، والعكس صحيح. فنجاح الفلسطينيين في إعادة بناء نظامهم السياسي يمنحهم قوة تفاوضية أكبر، بينما فشلهم يسهّل تمرير سيناريوهات الوصاية الدولية.
نحو أي أفق سياسي؟
في ضوء هذا التشابك، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد سباقًا بين مشروعين:
الأول، تديره واشنطن وتل أبيب عبر مقاربة أمنية دولية تسعى لضبط الوضع الميداني دون تغيير جذري في الواقع السياسي.
والثاني، فلسطيني داخلي يحاول إعادة بناء مؤسسات الحكم وتوحيد القرار الوطني.
مجدلاني حذر من أن استمرار غياب الرؤية السياسية الموحدة سيؤدي إلى "تفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية تحت شعارات إنسانية وأمنية"، داعيًا إلى حوار وطني شامل يضع حدًا لتعدد المرجعيات.
بينما شدد أبو الفضل على أن الفرصة لا تزال قائمة إذا ما استطاع الفلسطينيون تحويل الإعلان الدستوري إلى عملية سياسية حقيقية تنفتح على كل الفصائل، وتواكب أي تحركات دولية دون التفريط بالسيادة.
بين مطرقة الترتيبات الدولية وسندان الإصلاح الداخلي، تجد فلسطين نفسها أمام معادلة دقيقة: إما استعادة زمام القرار الوطني وإعادة توحيد المؤسسات، أو ترك الفراغ مفتوحًا أمام قوى خارجية تعيد رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة على طريقتها.
وبينما تواصل إسرائيل وواشنطن التلاعب بخيوط المرحلة المقبلة، يبقى التحدي الأكبر فلسطينيًا — كيف تُكتب السيادة الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية، لا بقرارات من الخارج.
