بينما تتواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، تتحول الأنظار نحو الضفة الغربية، حيث تكثف حكومة بنيامين نتنياهو خطواتها نحو ضم مناطق واسعة، في خطوة تهدد بإنهاء أي إمكانية لحل الدولتين ودفن اتفاقية أوسلو.
ومع تداول أنباء عن إبلاغ تل أبيب واشنطن نيتها المضي قدماً في الضم، يطرح سؤال محوري: هل تحظى هذه الخطوات بمباركة أميركية غير معلنة، أم أن الموقف الأميركي لا يزال متمسكاً باعتبار الضفة أرضاً متنازعاً عليها؟
خريطة الضم.. من غور الأردن إلى القدس
وفق موقع أكسيوس، أبلغ وزراء إسرائيليون نظراءهم الأوروبيين أن أي اعتراف بدولة فلسطين سيقابله ضم فعلي لمناطق واسعة في الضفة، تشمل مناطق استراتيجية كغور الأردن.
وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، أكد لفرنسا أن الضم سيشمل المناطق المصنفة (ج)، التي تمثل نحو 60 بالمئة من الضفة الغربية، ويسكنها قرابة 300 ألف فلسطيني.
وفي موازاة ذلك، كشف موقع والا أن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ناقش الملف مع نظيره الأميركي ماركو روبيو، في إشارة إلى وجود قنوات مفتوحة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأن الإعلان قد يتم خلال الأشهر المقبلة.
التصعيد الاستيطاني
التحركات الإسرائيلية لا تقتصر على البعد السياسي، بل تتجسد عملياً في مشاريع استيطانية ضخمة.
ففي الشهر الماضي، وافق وزير المالية بتسلئيل سموتريش على تنفيذ خطة E1، التي تستهدف بناء 3500 وحدة استيطانية في مستوطنة "معاليه أدوميم"، ما يعني عزل القدس عن محيطها الفلسطيني وفصل شمال الضفة عن جنوبها.
وفي يوليو الماضي، صادق الكنيست على مشروع قانون يدعم فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة، حيث يعيش نحو 700 ألف مستوطن، الأمر الذي يفاقم المخاوف الدولية من تكريس واقع جديد يقضي على أي إمكانية لحل سلمي.
الموقف الأميركي.. ضوء أخضر غير مباشر؟
تساؤلات عدة تُطرح بشأن حقيقة الموقف الأميركي، فبينما تُظهر تصريحات السفير الأميركي في تل أبيب ومسؤولين أميركيين تراجعاً عن الالتزام الصريح بحل الدولتين، يرى مراقبون أن واشنطن تمنح إسرائيل ضوءاً أخضر غير مباشر، عبر سياسات مثل تقييد منح التأشيرات للفلسطينيين ودعم الضم بصورة ضمنية.
لكن الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، حسين عبد الحسين، يرى خلال حديثه إلى "التاسعة" على سكاي نيوز عربية أن الموقف الأميركي لم يتغير جوهرياً، قائلاً: "الولايات المتحدة تعتبر أن هذه الأراضي متنازع عليها، وأن الصفة القانونية النهائية لا تُحسم إلا بتسوية بموافقة الطرفين. وحتى ذلك الحين، فالسيادة الفعلية حالياً بيد إسرائيل".
واشنطن بلا رؤية موحدة
أشار عبد الحسين إلى أن السياسة الأميركية تجاه الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي تفتقر إلى رؤية موحدة، موضحاً: "منذ عهد أوباما، انتهت الرؤية الأميركية الموحدة. اليوم واشنطن تميل إلى إدارة الأزمات أكثر من تقديم حلول، وترى أن علاقتها بإسرائيل جيدة بصرف النظر عما يحدث".
وضرب مثلاً بقرار ترامب نقل السفارة إلى القدس، قائلاً: "حتى عندما قام ترامب بهذه الخطوة، لم يعترف بالقدس الشرقية عاصمة لإسرائيل، بل اكتفى بنقلها إلى القدس الغربية، ما يعكس حدوداً معينة لا تتجاوزها السياسة الأميركية".
غياب القيادة الفلسطينية.. عامل مفاقم
يرى عبد الحسين أن أحد أبرز أسباب ضعف الموقف الفلسطيني أمام مشاريع الضم هو غياب القيادة الموحدة، سواء لدى السلطة أو حماس: "في غزة، أطاحت إسرائيل بالصف الأول والثاني من قيادة حماس، ولم يعد واضحاً من يدير القرار. أما السلطة الفلسطينية، فهي تعاني من تعب دولي، مع دعوات متزايدة لوجوه جديدة ورؤية مختلفة بعيداً عن خطاب أوسلو الذي استمر منذ 1993".
وأكد أن الولايات المتحدة لا تقاطع الشعب الفلسطيني بشكل كامل، لكن لديها "مشاكل مع شخصيات محددة"، لافتاً إلى أن بعض الفلسطينيين لا يزالون يحصلون على تأشيرات دخول إلى أميركا، ما يعني أن الأزمة سياسية وليست وجودية.
أحد الجوانب الأكثر حساسية في ملف الضم يتمثل في مصير 300 ألف فلسطيني يسكنون المنطقة (ج). فبحسب عبد الحسين: "هذا يعني أن إسرائيل ستكون مضطرة لمنح هؤلاء الجنسية الإسرائيلية، على غرار ما حصل مع سكان القدس الشرقية، وهو ما قد يخلق إشكاليات ديمغرافية وسياسية معقدة".
وبذلك، فإن الضم لا يغير فقط الخريطة الجغرافية، بل يفرض تحولات ديموغرافية قد تقلب ميزان الصراع في المدى البعيد.
إسرائيل الكبرى.. بين السياسة والواقع
أعاد عبد الحسين التذكير بأن مفهوم "إسرائيل الكبرى" يظل في معظمه شعاراً سياسياً أكثر من كونه مشروعاً واقعياً: "حتى نتنياهو عندما سُئل عن الفكرة، قال إنه قريب منها، لكنه لم يعلن تبنيها بالكامل. الحديث عن إسرائيل من النيل إلى الفرات ليس واقعياً، فعدد اليهود في إسرائيل لا يتجاوز ثمانية ملايين، ولا يمكنهم السيطرة على هذه المساحة الشاسعة".
وبالتالي، فإن التركيز الإسرائيلي ينحصر عملياً في الضفة الغربية وغزة، مع بعد أمني يتعلق بالممرات البحرية والبرية لربط الشمال بالجنوب.
انعكاسات إقليمية.
يشير عبد الحسين إلى أن التصعيد في الملف الفلسطيني لا يعني بالضرورة انتقاله إلى مسارات أخرى، مثل لبنان أو سوريا: "لحسن الحظ، إسرائيل التزمت في اتفاقياتها مع مصر والأردن ولبنان بقرارات الأمم المتحدة. التأزيم في الضفة لا ينسحب تلقائياً على ملفات أخرى".
لكن هذا لا يلغي المخاطر من أن يؤدي الضم والاستيطان إلى تآكل فرص السلام الإقليمي، وإضعاف مصداقية المبادرات الأميركية في المنطقة.
التحليل الذي قدمه عبد الحسين يسلط الضوء على أزمة أعمق في السياسة الأميركية، حيث يرى أن واشنطن لم تعد تسعى بجدية إلى رعاية حل نهائي، بل تكتفي بإدارة الوضع: "لو كانت هناك رؤية موحدة وحقيقية لحل الدولتين، لكان الوضع أفضل بكثير، سواء لإسرائيل أو للفلسطينيين. لكن ما نراه اليوم مجرد إدارة أزمة بلا حلول".
ويضيف أن ذلك يفسر عجز الولايات المتحدة عن تحقيق اختراقات في ملفات أخرى مثل أوكرانيا أو إيران، ما انعكس أيضاً على القضية الفلسطينية.
ضم على وقع الغياب
تسابق إسرائيل الزمن لفرض واقع جديد في الضفة الغربية، مستفيدة من انقسام فلسطيني داخلي، وتراجع الالتزام الأميركي بحل الدولتين، وصمت دولي يقتصر على التحذيرات دون خطوات عملية.
الضم، إن تحقق، سيعني ليس فقط دفن اتفاقية أوسلو، بل أيضاً تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، عبر فرض خريطة جديدة قد تجعل أي تسوية مستقبلية أكثر تعقيداً.
وفي غياب قيادة فلسطينية متجددة ورؤية أميركية واضحة، يبقى الضم أقرب إلى واقع آخذ في التشكل، أكثر من كونه مجرد ورقة ضغط سياسية.