المدن- واصل حميدة
مساء الخميس، وبينما كانت الأنظار تتجه جنوباً إلى محافظة السويداء التي تعيش على وقع التصعيد العسكري الأخطر منذ سنوات، قرر عشرات السوريين في دمشق الخروج عن صمتهم. عند مدخل مجلس الشعب، افترشوا الأرض، حاملين لافتات بسيطة كتبوا عليها: "نريد وقف إطلاق النار"، "الحوار الجامع هو الحل"، و"دم السوري على السوري حرام".
الاعتصام، الذي لم تنظمه جهة سياسية بعينها، جاء كصرخة مدنية ضد العنف المستمر، في وقت تحوّلت فيه محافظة السويداء إلى ساحة صراع مفتوحة، راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، جلّهم من المدنيين، سواء من أبناء المدينة أو من العشائر البدوية المنتشرة في محيطها.
المدنيون أول الضحايا
في الأيام الماضية، عاشت محافظة السويداء مشاهد دامية أعادت إلى الأذهان سنوات الحرب الأولى.
الاشتباكات التي اندلعت بين مجموعات مسلحة محلية وقوات حكومية تصاعدت بوتيرة متسارعة، ليتحول التوتر إلى معارك عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، وتوسعت رقعتها من قلب المدينة إلى القرى المجاورة.
فجر الخميس، جاء الانسحاب المفاجئ للقوات الحكومية من مدينة السويداء ليزيد المشهد تعقيداً.
ترك هذا الانسحاب فراغاً أمنياً واسعاً، سرعان ما ملأته الفصائل المسلحة المرتبطة بالشيخ حكمت الهجري، التي سيطرت على مفاصل المدينة ومحيطها.
المدنيون كانوا الضحية الأكبر لهذا التصعيد، فإلى جانب الانتهاكات التي تعرض لها أهالي السويداء، والتي وثقتها مقاطع مصورة انتشرت بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي، دخل أبناء العشائر البدوية المنتشرة في محيط المحافظة في دائرة الدم. عمليات انتقامية نفذتها مجموعات مسلحة محسوبة على المجلس العسكري التابع للهجري، طالت قرى البدو وأقعت مزيداً من الضحايا المدنيين، ما وسّع من رقعة المأساة.
حتى الآن، لا توجد إحصائيات دقيقة حول أعداد الضحايا، لكن المؤشرات جميعها تنذر بكارثة مجتمعية تتجاوز حدود المعركة المسلحة، وتهدد بإشعال فتنة مفتوحة يصعب احتواؤها.
"نريد حياة لا موتاً مستمراً"
عمر ملص، أحد منسقي الاعتصام أمام مجلس الشعب، قال إن تحركهم جاء لأن السوريين باتوا يشعرون أن العنف لم يعد حدثاً عابراً، بل أصبح واقعاً يومياً.
"الناس تعبت من دفن أبنائها"، يقول ملص وهو يشير إلى الشعارات المكتوبة على الورق المقوى، "ما يجري في السويداء اليوم هو جزء من دوامة دم لا تتوقف عند حدود جغرافية. الدرس الذي يجب أن نتعلمه جميعاً هو أن العنف، حين يبدأ، يتوسع ككرة الثلج".
يستحضر ملص مشاهد الأيام الماضية في الجنوب، حيث سقط المئات بين قتيل وجريح، ويتوقف عند النقطة الأخطر برأيه: "الضحايا ليسوا فقط من طرف واحد. الدم المسفوك هو دم أبناء السويداء والبدو على حد سواء، وكأننا نعود إلى أسوأ ما في ذاكرتنا".
الخوف من الطائفية
الناشطة وفا علي مصطفى، التي جلست على الرصيف إلى جانب العشرات من زملائها، عبّرت عن قلقها من تحوّل الصراع إلى حرب أهلية مصغرة في الجنوب. تقول إن ما جرى خلال الأيام الماضية ليس مجرد مواجهة بين مجموعات مسلحة، بل هو تذكير خطير بأن العنف الطائفي حين ينفجر، لا يرحم أحداً.
"ما يحدث في السويداء لا يمكن عزله عن الحالة السورية العامة"، تقول وفا. "نحن هنا اليوم لأننا خائفون من أن تتحول بلادنا إلى ساحة اقتتال أهلي دائم. الحل العسكري جرّبناه جميعاً، وكانت النتيجة معروفة: الخاسر دائماً هو المدني".
وتضيف: "السويداء تنزف، وأبناء العشائر في محيطها يدفعون ثمن هذا النزاع. الكرة تكبر، ولا أحد يوقفها".
من أجل طفل لم يولد بعد
في الاعتصام، كان من بين الحاضرين الدكتور زياد ونوس، الذي رأى في هذا التحرك فعلاً رمزياً لكنه ضروري. تحدث عن ابنه الذي ولد قبل أيام فقط، وأشار إلى أن ما يدفعه للخروج إلى الشارع ليس فقط رفضه للعنف، بل رغبته في تغيير المسار من أجل الأجيال القادمة.
"لا أريد لابني أن يكبر في بلد يحكمه السلاح"، قال ونوس وهو يتابع أخبار السويداء على هاتفه المحمول. "هذا التصعيد لن يتوقف إذا لم يجد السوريون طريقة يجتمعون بها حول طاولة واحدة".
برأيه، المشكلة الأساسية اليوم أن السوريين لم ينجحوا، رغم كل هذه السنوات من الحرب، في الوصول إلى صيغة جامعة تقود البلاد إلى مرحلة سياسية جديدة.
"الناس بحاجة إلى مسار سياسي، لا إلى مزيد من السلاح"، يقول وهو يلوّح بيده نحو البرلمان المغلق.
القصف الإسرائيلي
التصعيد في الجنوب السوري تزامن مع تطورات إقليمية خطيرة. مساء الأربعاء، تعرض مبنى هيئة الأركان في دمشق لقصف إسرائيلي هو الأوسع منذ أشهر. الضربة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى بين العسكريين والمدنيين.
ورغم تصاعد التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، حرص المشاركون في الاعتصام الدمشقي على التأكيد أن الاحتلال الإسرائيلي يبقى العدو المشترك لجميع السوريين، بكل طوائفهم ومكوناتهم.
اللافتات التي رُفعت في الساحة كانت واضحة: "يسقط الاحتلال الإسرائيلي"، و"يسقط العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية كافة"، في رسالة تعكس موقفاً ثابتاً بأن الذرائع التي يسوقها الاحتلال للتدخل في الجنوب السوري لا تنفصل عن تاريخه الطويل من الاعتداءات على الفلسطينيين والعرب، ولا عن المشهد الدموي المستمر حتى اليوم، حيث لا تزال رائحة موت الأطفال تفوح من غزة.
هذا التأكيد، بالنسبة للمشاركين، لم يكن محاولة للدخول في سجالات جانبية، بل موقف مبدئي يرافق مطلبهم الأساسي: وقف القتل بين السوريين أولاً، وفتح باب الحوار الوطني الشامل كطريق وحيد للإنقاذ.
غياب الحوار
بحسب المعتصمين، ما يحدث اليوم ليس نتيجة مفاجئة، بل حصيلة شهور طويلة من الجمود السياسي. منذ إعلان "انتهاء النظام البائد" مطلع هذا العام، لم تستطع الحكومة الجديدة، رغم الدعوات المتكررة، أن تضع جميع الأطراف على طاولة حوار جدي، لا تزال مناطق واسعة من البلاد تعيش حالة من الانفصال الفعلي عن القرار السياسي المركزي.
"لو كان هناك حوار وطني حقيقي، لم نكن لنصل إلى هنا"، تقول زينة شهلا، الصحفية المشاركة في الاعتصام. "لكن بدل الحوار، تركت الأمور لتتفاقم. واليوم نشهد النتيجة: دائرة الدم تتوسع، ولا أحد يوقفها".
هل هناك فرصة للإنقاذ؟
في ختام الاعتصام، بقيت اللافتات معلقة على سور مجلس الشعب، بينما غادر النشطاء المكان ببطء، وكأنهم يتركون أصواتهم خلفهم شاهدة على لحظة فارقة في مسار الأزمة السورية، مجددين الدعوة إلى الاعتصام في نهار اليوم التالي. رسائلهم لم تكن صاخبة كدوي الانفجارات في الجنوب، لكنها حملت مضموناً لا يقل أهمية: سوريا لم تعد تحتمل جولة جديدة من العنف.
بالتزامن مع هذا التحرك المدني، أصدر طلاب الجامعات السورية بياناً صريحاً يرفض الانجرار إلى الخطابات الطائفية، ويدعو إلى حماية الفضاءات التعليمية من التمييز والتحريض، في خطوة تحاول كبح تمدد العنف إلى الحياة اليومية للمدنيين. وفي السياق ذاته، تقدم أعضاء من مؤتمر الحوار الوطني بمبادرة لإنشاء هيئة إنقاذ وطني، تسعى إلى بلورة مسار سياسي جديد يُشرك جميع الأطراف في صياغة مستقبل البلاد، على قاعدة التشاركية في القرار والسلطة، بعيداً عن منطق الغلبة والاستئثار.
لكن الصورة تبدو أكثر تعقيداً من مجرد بيانات ومبادرات. ما يجري في الجنوب السوري اليوم هو نتيجة إهمال الملفات العالقة، وغياب الحلول السياسية الشاملة. دوامة العنف لا تتوقف عند حدود محافظة أو طائفة، بل تتسع ككرة الثلج، ومع كل يوم تتأخر فيه فرص التفاهم الوطني، تتضاعف مخاطر الانفجار المجتمعي الذي قد يعصف بما تبقى من تماسك السوريين. وحده حوار حقيقي وجاد يمكن أن يوقف هذا المسار، قبل أن يصبح الوقت متأخراً جداً.