(المدن)
بعد إقراره في مجلس الوزراء يوم الجمعة الماضي، صدر يوم أمس الإثنين مرسوم مشروع قانون الفجوة الماليّة بصيغته الأخيرة، ما يمهّد لبدء مناقشة المشروع في مجلس النوّاب. وبهذا الشكل، بات متاحاً للعموم النص الكامل والحرفي للمشروع، بعد كل التعديلات التي طرأت عليه خلال مناقشات مجلس الوزراء. ومن المهم الإشارة إلى أنّ بعض هذه التعديلات ستترك أثراً كبيراً على طريقة تنفيذ القانون لاحقاً، وإن بدت للوهلة الأولى محدودة النطاق من حيث الشكل أو حجم العبارات المُضافة.
في هذا المقال، تناقش "المدن" الحلّة الأخيرة لمشروع قانون الفجوة الماليّة، مع تركيز خاص على التعديلات التي طرأت عليه في نقاشات مجلس الوزراء، فضلاً عن ما يقدّمه حالياً للمودعين. كما سيتطرّق المقال إلى ما يمكن تحسينه -أو يجب تعديله- في مشروع القانون، عند مناقشته في لجنة المال والموازنة.
المئة ألف دولار المضمونة
لم يترك المشروع حيّزاً للتكهنات، بالنسبة للودائع التي تقل قيمتها عن مئة ألف دولار. في هذه الفئة من الودائع، لن تكون هناك أموال "مؤهّلة" أو "غير مؤهّلة"، وفقاً لمفاهيم الخطط السابقة. ولن يُشطب من هذه الودائع أي مبالغ ناتجة عن الفوائد المتراكمة سابقاً، أو الأموال المحوّلة من ليرة إلى دولار خلال الأزمة، أو التحويلات الداخليّة بين الحسابات بعد 17 تشرين الأوّل 2019. بهذا المعنى، ستُعامل الودائع الخاضعة حالياً للتعميمين 158 و166 بالطريقة نفسها: ستُسدّد هذه الودائع خلال أربع سنوات كحد أقصى.
خلال نقاشات مجلس الوزراء، جرت إضافة تعديل مهم، يقضي بتحديد حد أدنى للسحوبات الشهريّة، وبقيمة 1500 دولار أميركي. هذا التعديل، سيسمح بالتعويض على صغار المودعين بوتيرة أسرع، وبما يسمح بتسديد الودائع الصغيرة جداً خلال فترة قصيرة، من دون الانتظار لمدّة أربع سنوات. على سبيل المثال، يمكن لصاحب وديعة بقيمة 12 ألف دولار أن يتقاضى كامل قيمة وديعته، خلال فترة لا تتجاوز الثمانية أشهر.
ما يمكن استنتاجه هنا، هو أن مشروع القانون قادر على مضاعفة السحوبات الشهريّة بنحو مرّة ونصف، بالنسبة للمستفيدين من التعميم 158، وبنحو الثلاث مرّات، بالنسبة للمستفيدين من التعميم 166. ولن يتم تخفيض المبلغ المضمون، أي المئة ألف دولار، في حال استفادة المودع من سحوبات التعميمين سابقاً. وسيتحمّل مصرف لبنان حصّة تصل إلى 60%، من كلفة تسديد هذه الودائع، فيما سيتم تحميل المصرفيين النسبة المتبقية، بحسب متطلّبات إعادة الرسملة المُلقاة على عاتقهم.
بطبيعة الحال، لم يكن اللوبي المصرفي راضيًا عن هذا الجانب من مشروع القانون، نظراً للكلفة التي ستتحمّلها المصارف عند تسديد هذا الجزء من الودائع. وحتّى الساعات الأخيرة، قبل جلسة يوم الجمعة، كان اللوبي المصرفي يمارس ضغوطاً لإقحام تعديلات سلبيّة على النص، بما يعيد إقحام مفهوم "الودائع غير المؤهّلة"، لشطب جزء من الودائع التي تقل قيمتها عن مئة ألف دولار. كان المطلوب، شطب الفوائد المتراكمة في تلك الحسابات، أو شطب أجزاء من هذه الودائع إذا كانت ناتجة عن تحويلات من ليرة إلى دولار، أو تحويلات داخليّة بين الحسابات. كما طالبت المصارف بتخفيض المبلغ المضمون، في حال استفادة المودع سابقاً من سحوبات تعاميم مصرف لبنان.
كما بات واضحاً الآن، لم يؤخذ بمطالب اللوبي المصرفي. ولم يؤخذ بمطلبه القاضي ببيع 10 مليارات دولار أميركي، من احتياطات الذهب، لتمويل السحوبات، بدل تحميل المصرفيين كلفة إعادة الرسملة. وهذا بالضبط ما يفسّر الحملة التي خاضها هذا اللوبي خلال الساعات الماضية، ضد مشروع القانون، من زاوية التشكيك في "توفّر التمويل" لسداد الودائع الصغرى. وفي واقع الأمر، لم تكن المسألة شكًا بتوفّر التمويل، بقدر ما كانت رفضًا لتحميل المصرفيين نصيبهم من كلفة سداد الودائع.
تحصين الذهب والتدقيق الجنائي
في نقاشات مجلس الوزراء، جرت إضافة عبارة تعيد التأكيد على أحكام "القانون 86/42 تاريخ 24/09/1986، المتعلّق بحماية احتياطي الذهب لدى مصرف لبنان". وبهذا التعديل، بات أي استعمال محتمل لاحتياطات الذهب مربوط بقانون صادر عن المجلس النيابي.
هذا التعديل لا يناقض سائر بنود القانون، التي تعزّز السندات الصادرة عن مصرف لبنان بموجوداته، وإيرادات هذه الموجودات، وعوائد تصفية الموجودات "في حال تصفيتها". غير أنّ أهميّة التعديل تكمن في كونه يمنع أي مغامرة، يمكن أن تورّط احتياطات الذهب باستثمارات أو مشتقات ماليّة خطرة أو هندسات غير مضمونة النتائج، بذريعة مواد قانون الفجوة الماليّة. أي بعبارة أخرى، يضبط هذا التعديل آليّة استعمال الذهب في المستقبل، ويضمن شفافيّة أي قرار يمكن أن يصدر بهذا الخصوص في المستقبل.
في الوقت نفسه، أضافت مناقشات مجلس الوزراء تعديلاً يؤكّد أن أحكام قانون الفجوة الماليّة "لا تحول دون استكمال أي من إجراءات التدقيق المحاسبي والجنائي، المفروضة بحسب القوانين المرعيّة الإجراء، لاسيما القانون رقم 2000/200 تاريخ 29/12/2020 وتعديلاته". ورغم أهميّة هذا التعديل، يشير بعض المتابعين إلى إمكانيّة تعديل هذه العبارة في مناقشات لجنة المال والموازنة، لتفرض هذا التدقيق بنصّ أوضح في إطار عمليّة إعادة الهيكلة، وبالتوازي مع عمليّة تقييم أصول المصارف وانكشافها على العمليّات المتبادلة مع مصرف لبنان.
تعديلات يجب العمل عليها
كما أشرنا سابقاً، أثار المشروع حفيظة جمعيّة المصارف، التي تضغط حاليًا باتجاه تعديلات تخفّض الهامش المضمون للمودعين، أو تلقي الكلفة على احتياطات الذهب، بهدف تخفيض كلفة إعادة الرسملة على أصحابها. كما طرح صندوق النقد سابقًا ملاحظات، تنطلق من حرصه على أولويّة استدامة الدين العام. لكن في المقابل، ثمّة ملاحظات تم طرحها من زاوية أخرى، وهي الحرص على حقوق الفئات الأكثر هشاشة من بين المودعين، أو الودائع التي تتسم بطابع اجتماعي. وعلى هذا الأساس، يمكن تعداد التعديلات التالية الممكن العمل عليها، بهدف تطوير المشروع، عند مناقشته في البرلمان:
1- نصّ مشروع القانون بوضوح على تحييد الودائع التي تقل قيمتها عن مئة ألف دولار عن أي تخفيض في قيمتها، وفقاً لمفهوم الأصول "غير المنتظمة"، الذي يشمل مثلاً التحويلات من ليرة إلى دولار بالسعر الرسمي خلال الأزمة. لكن ماذا عن الوديعة التي تتجاوز قيمتها هذا الحد؟ بالنسبة للأموال المحولة من ليرة إلى دولار، أو عبر شيكات مصرفيّة، يوحي القانون بأنّ المئة ألف دولار الأولى ستكون مضمونة، فيما سيتم تطبيق التخفيض على الجزء الذي يتجاوز الحد المضمون. غير أنّ النص الموجود يفتح في الوقت نفسه باب إساءة التفسير، بحيث يتم إخضاع الوديعة بكاملها لمفهوم الأصول "غير المنتظمة"، وهذا ما يقتضي حسمه بتعديل واضح لا يحمل اللبس.
2- ثمّة ودائع -فوق الـ 100 ألف دولار- تتسم بطابع اجتماعي خاص، وخصوصاً تعويضات نهاية الخدمة التي اضطرّ أصحابها لتحويلها -داخل المصارف- من الليرة إلى الدولار خلال الأزمة، بسبب عجزهم عن سحبها. وعلى هذا الأساس، قد يكون مجحفًا معاملة هذه الودائع كسائر الودائع الكبيرة، عند تطبيق مفهوم "الأصول غير المنتظمة". هذه الفئة من المودعين، لم تكن من أصحاب النفوذ الذين استفادوا من امتيازات معيّنة، لشراء "دولارات مصرفيّة" بسعر رسمي مدعوم، بل اضطرّت لإجراء عمليّات القطع بشكل قسري.
3- لم يفرد مشروع القانون أي بنود لتحديد كيفيّة التعامل مع صناديق التعاضد، التي تخص النقابات، والتي يستفيد من خدماتها مئات آلاف المنتسبين. وهذا ما يفتح حالياً الباب أمام احتمالين: إما التعامل معها بشكل استنسابي، بقرارات خاصّة، أو التعامل مع أموالها كسائر كبار المودعين، ما يحمّل الكلفة النهائيّة لأعضاء النقابات. وقد يكون ضرورياً دراسة الخيارات المتاحة لحماية أموال هذه الصناديق، بالتنسيق مع النقابات التي تملك بيانات ودائعها، وتعرف إمكاناتها الحاليّة.
4- بالنسبة لمسؤوليّة الدولة، يترك مشروع القانون تحديد رصيد الدين المُستحق على الدولة لمصلحة مصرف لبنان لتشاور وزير الماليّة مع حاكم مصرف لبنان، على أن يتخذ مجلس الوزراء القرار النهائي. بطبيعة الحال، تُرك الباب مفتوحاً هنا، لمواءمة قيمة هذا الدين مع "مبدأ استدامة الدين العام"، أي القدرة على سداده، وفي ضوء المفاوضات المُنتظرة لإعادة هيكلة سندات اليوروبوند. غير أنّ هذا المسار يفتح الباب أمام تحميل الدولة ديوناً جديدة، من دون العودة إلى مجلس النوّاب، وهو ما يتجاوز القاعدة الدستوريّة التي تمنع عقد أي قرض حكومي بلا قانون.
5- بالنسبة لتراتبيّة توزيع الخسائر، نصّ القانون بشكلٍ واضح على اعتماد تراتبيّة الحقوق والمطالب، التي تحمّل المساهمين في المصارف الشريحة الأولى من خسائر مصرفهم، كما تفرض شطب كامل الشريحة الأولى من الرأسمال بمعزل عن نتيجة التقييم لكل مصرف. لكن كما أشرنا سابقاً، ثمّة خلاف قائم بين حاكم مصرف لبنان كريم سعيد وصندوق النقد الدولي، بخصوص المراحل الزمنيّة المرتبطة بعمليّة إعادة الرسملة وتقييم انكشاف المصارف على الأصول غير المنتظمة. ونصّ القانون، لم يحسم هذا الخلاف بشكلٍ واضح. ومن المرجّح أن يتم إخضاع القانون لبعض التعديلات لاحقاً، لحسم هذه المسألة.
في جميع الحالات، ما زال المسار -رغم كل ما قيل حتّى الآن- في بدايته. فنقاشات لجنة المال والموازنة، ثمّ اللجان المشتركة، ومن بعدها الهيئة العامّة، ستحسم خيارات كبيرة في مشروع القانون. وما نناقشه الآن، ليس سوى الأرضيّة التي سيبدأ منها النقاش، خلال المرحلة المقبلة. أمّا الأهم، فهو تمييز الانتقادات التي تسعى لتطوير المشروع، لمصلحة المودعين والمجتمع، عن تلك التي تسعى إلى تحقيق الهدف المعاكس: تخفيض ما يضمنه المشروع للمودع، وحماية المصرفيين من كلفة إعادة الرسملة.
