غادة حلاوي -
في الشهر الأول من السنة، يُفترض أن ينتقل الجيش، وفق الخطة الموضوعة، إلى شمال الليطاني. لم يُعلَن بعد انتهاء المرحلة الأولى، وربما سيتأخر الإعلان تلافياً لأزمة متوقعة وتهديدات إسرائيلية متزايدة. غير أنّ الانتقال إلى المرحلة الثانية في الشمال لا بدّ أن يتم تحت وطأة التهديدات الإسرائيلية والضغوط الدولية على لبنان، وربط أي مساعدة مستقبلية بإنهاء سحب السلاح من جنوب الليطاني وشماله.
وما تبلّغه لبنان خلال اجتماع باريس هو أنّه لا مساعدات للجيش ما لم يُنجَز ملف حصرية السلاح، وما لم يُعلَن عن تسليم حزب الله سلاحه إلى الجيش. وتنقل مصادر دبلوماسية أنّ تحديد موعد لمؤتمر المساعدات للمؤسسة العسكرية قوبل باستغراب من دول عدّة، اعتبرت نفسها غير جاهزة لتقديم أي دعم قبل الانتهاء من خطة سحب السلاح من الجنوب. كما أبلغت دول أخرى فرنسا بصعوبة تقديم مساعدات في الموعد المحدد للمؤتمر، أي في شباط المقبل، ما لم تُعلِن الحكومة اللبنانية منطقة الجنوب منطقة منزوعة السلاح.
وليس هذا فحسب، إذ إنّ إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، تطالبان برفع مستوى التمثيل في الميكانيزم إلى مستوى وزير الخارجية، لتكون المفاوضات مباشرة، وهناك معلومات تفيد بأنهما طالبتا بوزير الخارجية بالاسم.
وقد يكون هذا الأمر على جدول محادثات ترامب- نتنياهو الذي توجّه إلى الولايات المتحدة الأميركية. وثمّة مخاوف من ضربة إسرائيلية قريبة شمال الليطاني، تكون بمثابة إنذار للبنان بأن شماله قد يتحوّل إلى ما يشبه جنوبه في حال تخلّف الجيش عن متابعة مهامه.
الوضع بالغ الصعوبة في منطقة حبلى بالتطوّرات، وسط تغييرات جذرية وتعقيدات تنذر بالأسوأ ، فالاعتراف الإسرائيلي الأخير بإقليم صوماليلاند دولةً مستقلة يمثّل تطورًا بالغ الخطورة في معادلات الأمن الإقليمي، ولا يمكن قراءته بوصفه خطوة دبلوماسية معزولة أو تعبيرًا عن تعاون اقتصادي عابر. فهذه الخطوة تكسر إجماعاً دولياً استمر أكثر من ثلاثة عقود على اعتبار الإقليم جزءًا لا يتجزأ من الدولة الصومالية، وهي تفتح الباب أمام إعادة تشكيل موازين القوة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، بما يحمل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري.
تقع صوماليلاند في شمال الصومال، مطلة على خليج عدن، في مواجهة السواحل اليمنية، وعلى مقربة مباشرة من مضيق باب المندب، أحد أهم المضائق البحرية في العالم، حيث تمر نسبة كبيرة من تجارة الطاقة والتجارة العالمية المتجهة إلى قناة السويس. ورغم أنّ الإقليم أعلن انفصاله عن الصومال عام 1991، فإنه ظل حتى اليوم بلا اعتراف دولي يُذكر، ويُعامل قانونيًا كجزء من الصومال.
تكمن خطورة الاعتراف الإسرائيلي في البعد الجيوسياسي لا القانوني. فإسرائيل، منذ تصاعد التوتر في البحر الأحمر بعد حرب غزة، باتت تنظر إلى أمن الملاحة في باب المندب بوصفه مسألة وجودية، في ظل ما تعتبره تهديدات الحوثيين في اليمن. ومن هنا، توفّر صوماليلاند لإسرائيل قاعدة محتملة مثالية لتوسيع نفوذها الأمني والاستخباراتي، سواء عبر إقامة مراصد أو رادارات أو قواعد صغيرة للطائرات المسيّرة، بما يتيح لها مراقبة حركة الملاحة والتحكّم بها من الجنوب.
يتزامن هذا التطور مع تنامي النفوذ الإماراتي في المنطقة. فالإمارات، وانطلاقًا من دورها الاقتصادي–الاستثماري، تعمل منذ سنوات على بناء شبكة نفوذ عسكرية ولوجستية تمتد من جنوب اليمن إلى القرن الإفريقي، تحت عنوان "إمبراطورية الموانئ". ففي اليمن، دعمت أبوظبي المجلس الانتقالي الجنوبي، وساهمت في السيطرة على موانئ عدن والمكلا، وعلى جزر استراتيجية مثل سقطرى وميون (بريم)، المتحكّمة مباشرة بمضيق باب المندب.
وعلى الضفة الإفريقية المقابلة، دخلت الإمارات بقوة إلى صوماليلاند منذ عام 2017، حين حصلت شركة "دي بي ورلد" على امتياز تطوير وتشغيل ميناء بربرة، وضخّت استثمارات ضخمة لتحويله إلى مركز لوجستي إقليمي مرتبط بميناء جبل علي. ويضفي الاعتراف الإسرائيلي اليوم غطاءً سياسياً إضافياً على هذا الواقع، ويعزّز فكرة التعامل الدولي المباشر مع صوماليلاند، بما يقوّض وحدة الصومال ويُضعف موقع الدولة المركزية في مقديشو.
أما الحلقة الثالثة في هذا المشهد فهي إثيوبيا. فالدولة التي فقدت منفذها البحري بعد انفصال إريتريا، تسعى منذ سنوات لتحقيق حلم الوصول إلى البحر. ففي عام 2024، وقّع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مذكرة تفاهم مع صوماليلاند تمنح أديس أبابا حق استخدام شريط ساحلي طويل لمدة خمسين عاماً، مقابل الاعتراف بالإقليم، مع الحديث عن إنشاء ميناء وقاعدة بحرية إثيوبية قرب بربرة.
إذا اكتمل هذا المسار، فإن إثيوبيا لا تكتسب منفذًا بحرياً فحسب، بل تتحوّل إلى لاعب مباشر في البحر الأحمر، بما يضاعف الضغوط على مصر، التي تواجه أصلًا تهديدًا وجودياً مرتبطاً بسدّ النهضة وأمن مياه النيل. عند هذه النقطة، يتقاطع خطر البحر مع خطر النهر في معادلة واحدة.
الصورة الكاملة، إذًا، تكشف عن محور ناشئ يضم إسرائيل والإمارات وإثيوبيا، يعمل على تطويق البحر الأحمر من الجنوب والشرق، عبر دعم كيانات انفصالية، وبناء قواعد وموانئ، وإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة. هذا المحور لا يهدد مصر وحدها، بل يطال أيضًا السعودية، ووحدة اليمن، واستقرار الصومال، وأمن الملاحة الدولية.
في المقابل، بدأت مصر بالتحرّك لبناء محور مضاد يضم الصومال وتركيا وجيبوتي وإريتريا، دفاعًا عن وحدة الدول، وأمن البحر الأحمر، وقناة السويس، والنيل. الصراع هنا ليس عسكرياً مباشراً بعد، لكنه يحمل كل ملامح حرب باردة إقليمية تتشكّل بصمت حول أحد أخطر الممرات المائية في العالم.
ما جرى إنذار مبكر لتحوّلات استراتيجية عميقة ستفرض نفسها بقوة على مستقبل المنطقة وأمنها، وهو ما يفسّر جزءًا من صورة الصراع بين القوى نفسها في الشرق الأوسط، وبالتحديد في سوريا ولبنان.
