نغم ربيع -
في كلّ كانون أوّل، لا تكتفي المدن اللبنانيّة بتعليق الأضواء على الشرفات والساحات. هي تُعلّق معها، من دون مواربة، أسئلة الزعامة والهيبة، ومن "الأقوى" في مشهد العيد على المستوى المحلّي. شجرة الميلاد لم تعد شجرة فقط، ولا طقسًا موسميًا، بل تحوّلت إلى بيان سياسي غير مكتوب، وإلى اختبار علني لقدرة السياسيّين والبلديّات على الحشد والإنفاق وفرض الحضور في الفضاء العام.
في زمن الأجواء الانتخابيّة التي تعصف بالبلد، تخرج المنافسة من الصناديق المؤجّلة إلى الساحات المضاءة. كلّ شجرة عملاقة هي إعلان وجود، وكلّ زينة فخمة رسالة مبطّنة للناخبين: نحن الأقوى تنظيمًا، والأكثر قدرة، والأقرب إلى "الفرح" الذي تبحثون عنه والاقتصاد المزدهر.
زينة العيد… وسوق الزعامة المفتوح
الزعامة المحليّة تجد في العيد فرصة نادرة لعرض قوّتها من دون صدام مباشر. لا مشاريع خلافيّة تُثير الانقسام، ولا قرارات موجعة تُغضب الناس، بل احتفال يبدو في ظاهره جامعًا واحتفاليًا، فيما هو في عمقه سباق نفوذ ناعم. البلديّات والسياسيّون يدركون أنّ العين تسبق الصندوق، وأن الذاكرة البصريّة للناخب تُصنع من مشاهد الفرح بقدر ما تُصنع من الوعود الانتخابيّة.
تحولت البلدات والمدن إلى وجهات مقصودة، العائلات تشدّ الرحال لقضاء نهار كامل في شوارع "مُعَدّة للصور"، وأسواق موسميّة، وساحات مضاءة بعناية، وأشجار عملاقة تتنافس على جذب الزوّار والسياحة الداخليّة. الزينة هنا ليست تفصيلًا جماليًا ولا ترفًا موسميًا، بل أداة جذب اقتصادي مباشر، ومصدر فخر محلّي، ووسيلة للسلطات المحليّة لإبراز مستوى الإنماء وقدرتها على تحريك اقتصاد المنطقة في موسم يُفترض أن يكون واعدًا.
افتُتحت الأشجار تباعًا في مختلف المناطق اللبنانيّة، من الساحل إلى الجبل، ومن الشمال إلى البقاع والجنوب. في البترون وجبيل وجونية، وزحلة، والأشرفية ووسط العاصمة، وفي بلدات ساحليّة صغيرة وجيوب جبليّة غالبًا ما تبقى خارج الضوء. حتى الجنوب، الذي اعتاد أن يُقرأ دائمًا من زاوية السياسة الثقيلة والسياق الأمني، دخل هذا العام على خطّ المشهد، حين ارتفعت شجرة الميلاد في كنيسة بلدة يارون المدمّرة، حاملة رسالة تتجاوز الزينة نفسها.
خفوت زينة بيروت
في بيروت، لم يمرّ مشهد الزينة من دون جدل. حملة واسعة انتقدت الطابع العام للأضواء، معتبرة أنّها "تشبه زينة رمضان". الاعتراض لم يكن دينيًا بقدر ما كان رمزيًا وهويّاتيًا. في مدينة مثقلة بالمعاني والذاكرة والانقسامات، تتحوّل الأضواء إلى ساحة تأويل وصراع سردي، حيث كلّ تفصيل يصبح قابلًا للقراءة السياسية.
لكن ما زاد النقاش حدّة، أنّ بيروت، رغم كلّ الزينة، لم تتمكّن من استقطاب الناس والسياح إليها كما في سنوات سابقة. لم تعد العاصمة مركز الثقل الاحتفالي ولا الوجهة الأولى للأعياد. هذا التراجع فتح نقاشًا أوسع حول خروج السياحة من مركزيّتها البيروتيّة نحو المدن والمناطق، وكأن الأعياد هذا العام كرّست لامركزيّة سياحيّة فرضها الواقع، لا التخطيط. بيروت، التي اعتادت أن تكون "الواجهة"، بدت هذه المرّة متأخّرة في سباق الضوء، فاقدة القدرة على احتكار المشهد.
ديزني لاند البترون
في المقابل، ورغم كثرة الزينة والأشجار في مختلف المناطق، كانت زينة البترون حديث الناس ووسائل التواصل الاجتماعي. ضخامة الشجرة، كثافة الأضواء، والتنظيم العام، حوّلت المشهد إلى عرض متكامل شُبّه بـ"ديزني لاند" بنسخته المحليّة.
الرسالة هنا لم تكن جماليّة فقط، بل سياسية بامتياز. ما عُرض في البترون هو نموذج عن "إدارة الفضاء العام" بوصفها إنجازًا. رسالة نفوذ ناعمة تقول إن من يدير المدينة قادر على تحويل مناسبة موسميّة إلى رافعة اقتصاديّة وشعبية. في هذا السياق، يُقرأ المشهد كرسالة غير مباشرة من جبران باسيل، لهذا النموذج المصغّر عمّا يمكن أن تفعله "زعامتة" ليس في البترون فقط، بل في مناطق أخرى إذا ما امتدّ النفوذ.
البترون، التي راكمت نشاطها على مدى أكثر من سنتين، لم تأتِ زينتها من فراغ. هي خلاصة استثمار متواصل في الصورة، والسياحة، والحدث، ما منحها زخمًا إضافيًا هذا الموسم. وكأن الرسالة تقول: هذه ليست صدفة أعياد، بل نتيجة مسار. من هنا، يقدّم باسيل نفسه، بطريقة غير مباشرة، كمن يمتلك "قدرة على صنع اقتصاد"، عبر المثال الحيّ.
بهرجة جبيل
جبيل، التي اعتادت أن تكون الثقل الأوّل في الزينة الميلاديّة، والسبّاقة في إطلاق شجرتها واحتفالاتها، افتتحت هذا العام موسم العيد من دون رهجتها المعتادة. صحيح أنّ الشجرة كانت حاضرة، والاحتفال لم يخلُ من الضخامة والتنظيم، لكن المشهد بدا مختلفًا عمّا ألفته المدينة في سنوات سابقة. لا زحمة تُذكر، ولا تدفّق للزوّار، ولا ذلك الإحساس بأنّ جبيل هي "قلب العيد" الذي يشدّ الناس إليه من مختلف المناطق.
خطفت شجرة البترون الأضواء من جبيل هذا العام. تزور جبيل هذا الموسم، فتلاحظ الفراغ أكثر ممّا تلاحظ الأضواء. الساحات مضاءة، لكن الحركة خجولة. كأن المدينة، رغم جاهزيتها البصريّة، فقدت قدرتها على الاستقطاب، أو أنّ وهج المبادرة الأولى خفّ، في ظلّ سباق احتفالي اشتدّ في البترون وقدّم عروضًا أكثر جاذبيّة.
الصنّارة بدل السمكة
ومع اقتراب الانتخابات النيابية، يبرز نوعان من المقاربة تجاه الناس. الأولى تقليديّة: خدمات مباشرة ومال وانتظار المقابل في الصندوق. الثانية، أكثر حداثة في خطابها: "إعطاء صنّارة بدل السمكة"، أي عرض نموذج تنموي يقول للناس إن بإمكان كلّ منطقة أن تصبح مثل البترون إذا امتدّت هذه الزعامة. هكذا، تتحوّل شجرة الميلاد من رمز احتفالي إلى أداة خطاب انتخابي، ومن زينة موسميّة إلى وعد سياسي مغلّف بالضوء والفرح.
في هذا المعنى، لم تكن المنافسة على الأجمل فحسب، بل على الأقدر: الأقدر على الإقناع، وعلى صناعة صورة، وعلى تحويل العيد إلى رسالة انتخابيّة مبكّرة، تُقرأ جيدًا قبل موعد الاقتراع.
غياب جزين
في المقابل، لم يكن الجدل في جزّين حول شكل الزينة أو ألوانها، بل حول غيابها شبه الكامل. استياء واسع اجتاح أبناء المنطقة، من مختلف الانتماءات، على خلفيّة ما اعتُبر تقصيرًا فادحًا في تزيين المدينة وتنظيم رسيتالات ونشاطات ميلاديّة تليق بمكانتها السياحيّة وتاريخها كوجهة شتويّة أساسيّة. الغياب هنا لم يُقرأ كخلل تقني أو خيار مالي، بل كإشارة سياسية سلبية، وكعلامة على تراجع الحضور والاهتمام بالمدينة في موسم يُفترض أن يكون حيويًا لاقتصادها.
هكذا، تحوّلت الأضواء غير المعلّقة إلى دليل اتهام علني، وإلى مادة مواجهة بين أبناء المدينة والسلطة المحليّة، وبين القوى السياسيّة المتنافسة على النفوذ فيها.
العيد كمرآة
غياب الأرقام الرسميّة والشفافيّة حول كلفة الزينة ومصادر تمويلها حوّلها بحدّ ذاتها إلى مادة سجال عام. صارت الأضواء تُقاس لا بجمالها فقط، بل بثمنها، وكأن كلّ لمبة مضاءة تحمل معها علامة استفهام معلّقة في الهواء.
في لبنان، لا تمرّ الأعياد كطقوس عابرة أو مناسبات معزولة عن السياق العام. هي مرآة دقيقة للسلطة المحليّة، تكشف اختلالاتها وطموحاتها، وتعرّي علاقتها بالناس وبالاقتصاد وبالرمز. بين مدينة تُنفق بسخاء لتصنع مشهدًا مبهرًا وتفرض حضورها على الخريطة السياحيّة والسياسية، وأخرى تُحاسَب على الغياب أو التقصير، تتكشّف حقيقة بسيطة وقاسية في آن واحد: شجرة الميلاد لم تعد شجرة. تحوّلت إلى اختبار زعامة، ومؤشّر قدرة، ورسالة سياسيّة مغلّفة بالضوء.
هكذا، لا تُقرأ شجرة الميلاد في لبنان بمعزل عن سياقها السياسي والاجتماعي. هي ليست رمزًا دينيًا أو زينة شتويّة فحسب، بل فصل جديد من فصول التنافس على الزعامة المحليّة، حيث يُخاض السباق هذه المرّة بالأضواء بدل الشعارات، وبالصورة بدل الخطاب، فيما السياسة تنتظر دورها عند أوّل استحقاق انتخابي.
