A
+A
-انطوان قسطنطين -
لم تكن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان حدثاً راعوياً معزولاً عن سياقه السياسي، ولا يمكن اختزال مواقفه عن العيش المشترك بالمجاملة الديبلوماسية. ما قاله في بيروت يلامس جوهر أزمة لبنان: كيف نحمي التعدّد من دون أن نُسقِط فكرة الكيان، وكيف نبني وحدة لا تتحوّل إلى هيمنة؟ هذا السؤال، الذي بدا حديثاً، هو في الحقيقة الإمتداد السياسي لأقدم خلاف لاهوتي مسيحي في المشرق، بين النسطورية والخلقيدونية ليس حول الإيمان، بل حول إدارة الثنائية: وحدة تحمي الكيان، أم تمايز يحمي الخصوصيات؟
حين شدّدت الخلقيدونية على وحدة الأقنوم، كانت تؤسس لمنطق سياسي يرى في الوحدة شرط البقاء. هذا المنطق هو الذي ساهم لاحقاً في صياغة مفهوم «الدولة-الرسالة» ودور المسيحيِّين كوسيط لا كجماعة إنعزالية.
وحين شدّدت النسطورية على التمايز، لاهوتياً كانت تُعبّر عن خوف الأطراف (مسيحيّو بلاد فارس والرافدَين) من الذوبان في مركز قوي (أنطاكيا، بيزنطيا أو روما). هذا التنازع نفسه يسكن لبنان اليوم.
في خطابه عن العيش المشترك، لم يدعُ البابا إلى تعايش سلبي بين جماعات متجاورة، بل إلى شراكة فاعلة داخل دولة واحدة. هذا الموقف ليس جديداً على الكنيسة، بل هو امتداد للمنطق الخلقيدوني السياسي: وحدة لا تلغي التعدُّد، وتعدُّد لا ينسف الوحدة. الفرق أنّ البابا أعاد طرحه في لحظة لبنانية تتآكل فيها الدولة ويُستعاد فيها خطاب الخوف بدل خطاب الشراكة.
لبنان، الذي لم يكن ساحة صراع لاهوتي مباشر، ورث نتائج الصراع لا نصوصه. لذلك يعيش مسيحيّوه اليوم ازدواجية مزمنة: الدفاع عن الكيان نظرياً، وتشكيك البعض فيه عملياً، فهم يرفعون شعار الدولة، ثم يطالبون بضمانات قبلها. يطالبون بالوحدة، ثم يفاوضون على حدودها. زيارة البابا جاءت لتذكّر بأنّ العيش المشترك ليس تسوية ظرفية، بل خيار وجودي لا يقوم إلّا بدولة عادلة وقوية في آنٍ.
ما قاله البابا لاوون عن رسالة لبنان لم يكن حنيناً إلى ماضٍ جميل، بل تحذيراً من مستقبل بلا معنى. فحين يتحوّل العيش المشترك إلى مجرّد إدارة للتوازنات، يفقد روحه. وحين يُفصَل عن الدولة، يتحوّل إلى هدنة هشّة. الرسالة التي حملها البابا واضحة: لا عيش مشتركاً بلا دولة، ولا دولة بلا شراكة فعلية بين مكوّناتها.
بهذا المعنى، زيارة البابا أعادت السياسة اللبنانية إلى أصلها اللاهوتي من دون أن تُسمّيه. ذكّرت بأنّ الخلاف القديم لم يُحسم في لبنان، وأنّ المسيحيِّين ما زالوا عالقين بين خوف نسطوري من الذوبان، وحنين خلقيدوني إلى وحدة لا تكتمل. الخيار اليوم ليس بين عقيدتَين، بل بين مشروعَين: دولة جامعة تُدار بالعقل، أو توازنات تُدار بالخوف.
صحيحٌ أنّ التنازع وُلد لاهوتياً لكنّه تكرّس سياسياً واستمرّ ثقافياً، وما يعانيه المسيحيّون في لبنان اليوم أزمة تعريف: هل الأولوية لوحدة الدولة أم لحقوق الجماعات؟ هل الخطر في المركز القوي أم في التفكّك؟ هل نحن شركاء في كيان أم حراس توازن؟
هذه الأسئلة هي النسخة السياسية الحديثة عن اتحاد بلا اختلاط ولا انفصال، لكنّ الفارق أنّ اللاهوت حُسم في المجامع والسياسة اللبنانية تُدار بلا مجمع، وبلا حسم.
لبنان لا يحتاج تنظيراً جديداً عن العيش المشترك، بل شجاعة تُترجِم هذا المفهوم إلى سياسة. ما قاله البابا هو دعوة إلى هذه الترجمة. فإمّا أن يبقى العيش المشترك شعاراً يُستدعى في الأزمات، وإمّا أن يتحوّل إلى أساسٍ لحكمٍ عصري مدني بمساواة كاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. هنا فقط يصبح لبنان، كما وصفه يوحنا بولس الثاني، رسالة حرّية وتعدُّد.
