الأخبار: يحيى دبوق-
تُظهر الإدارة الأميركية نوعاً من إعادة تعريف «نزع السلاح»، وتتعامل مع غزة ولبنان وسوريا كحزمة واحدة، فيما ترفض إسرائيل أي تسوية تُقيّد حرية تدخلها العسكري.
وُصفت زيارة السفير الأميركي لدى تركيا ومبعوث الإدارة إلى سوريا، توم برّاك، إلى إسرائيل، أمس، بعبارات مفخّمة من مثل كونها «حسّاسة ومليئة بالدلالات»، حتى أنّ البعض في وسائل الإعلام العبرية ذهب إلى اعتبارها «رسالة تهديد وإنذار»، وتضخيمها إلى درجة القول إنها تمثّل خطوة أولى نحو «فرض» خطّة جاهزة على إسرائيل، تشمل ثلاث جبهات متزامنة: غزة ولبنان وسوريا. إلا أنه خلافاً لتلك المبالغات، يبدو أنّ زيارة برّاك، شأنها شأن معظم زيارات المسؤولين الأميركيين إلى إسرائيل، تستهدف الاستطلاع وليس الإملاء.
وفي حين أوحت بعض وسائل الإعلام بأنّ المبعوث الرئاسي يحمل معه إلى تل أبيب وثيقة نهائية ليعرضها على المسؤولين هناك على طريقة: اقبلوها أو ارفضوها، يبدو أنّ ما حصل فعلياً هو طرح أفكار لاستطلاع موقف القيادة الإسرائيلية منها، واستكشاف ما يشكّل خطّاً أحمر بالنسبة إليها، وأين يمكن التفاوض والمناورة وأيضاً «الضغط»؟ والأسلوب هذا، لا يندرج بحال من الأحوال في إطار «ديبلوماسية القوّة والفرض»، بل ديبلوماسية التقدير والتكيّف مع موازين القوى على الأرض، والنظرة الخاصة إلى الحليف. كذلك، تستهدف الزيارة، التي يمكن وصفها بالتشاورية، تجهيز الأرضية للّقاء الحاسم الذي سيجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين ونتنياهو، نهاية الشهر الجاري.
لكن، ورغم طابعها التشاوري، تحمل الزيارة دلالات استراتيجية عميقة، تُظهر أنّ إدارة ترامب، لم تَعُد تنظر إلى غزة أو لبنان أو سوريا باعتبارها ملفّات منفصلة، بل تتعامل معها كمنظومة واحدة، ضمن رؤية إقليمية أشمل. وبذلك، لا يعود الهدف مقتصراً على «حلّ مسألة غزة فقط»، بل يتعدّاها إلى إعادة ترتيب المشهد الأمني في غرب آسيا كلّه، بما يسهم في إضعاف الأطراف المعادية لأميركا في الإقليم، وترسيخ تسويات مستدامة تخدم مصالح واشنطن. ومن هذا المنطلق، فإنّ أيّ تقدّم في غزة نحو تثبيت التسوية، والشروع في المرحلة الثانية من خطّة وقف إطلاق النار، وكذلك ضبط الوضع في لبنان بما لا يفضي إلى تصعيد منفلت، وتعبيد الطريق أمام التسوية المطلوبة أميركيّاً بين سوريا وإسرائيل... كلّ ما تقدّم يُعدّ جزءاً لا يتجزّأ من تطلُّع أميركي إقليمي واسع.
الهدف المباشر لزيارة برّاك، هو الاستطلاع وليس الإملاء
وفي هذا السياق، تُسجَّل «براغماتية» أميركية بحلّة ترامبية جديدة، عنوانها «إعادة تعريف نزع السلاح». فالمسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم برّاك، باتوا يدركون أنّ تفكيك «حماس» أو «حزب الله» عسكريّاً في الظروف الحالية، ليس واقعيّاً. وعلى هذه الخلفية، تحوّل التركيز من «إزالة السلاح» إلى «منع استخدامه»؛ وهي صيغة، وإنْ بدت غامضة، إلّا أنها تُقرّ بتعقيدات الواقع، وتسعى إلى بناء آليات ردع ورقابة صارمة تحدّ من القدرة على استخدام السلاح في الساحتين. وفي ضوء ما تقدّم، تَظهر الولايات المتحدة باعتبارها الطرف الذي يخضع للضغط، وإنْ عكسيّاً، وليس «حزب الله» و«حماس» فقط؛ فهي لا تنتقل، بعد ممارسة أقصى درجات التهديد والتهويل، إلى تنفيذ التهديد فعليّاً عندما لا يرضخ الطرف الآخر لمطالبها، بل إلى استيعاب نتائج هذا الرفض والتكيّف معها، وإنْ لم تحصد ما كانت تتمنّى من وراء التهويل.
ومن شأن مقاربة كتلك، في ساحة غزة تحديداً، أن تؤثّر سلباً، من وجهة نظر تل أبيب، في المرحلة الثانية من خطّة وقف إطلاق النار، وتحديداً مسألة ربط انتشار القوّة الدولية وانسحاب إسرائيل من نصف غزة، بمدى فاعلية نزع سلاح «حماس». إذ سيؤدّي فصل المسارين بداهةً إلى رفض الاحتلال البدء في الانسحاب من المناطق التي يسيطر عليها مباشرة، شرق «الخط الأصفر»، في حين أنه لا يمكّن أميركا تمكين القوّة الدولية من دون هذا الانسحاب. على أنّ خلافاً من النوع المذكور لا يُحلّ عبر مبعوث أميركي، مهما علا شأنه، بل يبدو أنه ينتظر الزيارة المرتقبة لنتنياهو إلى الولايات المتحدة.
أمّا الملفّ السوري، فلا يقلّ حضوره في زيارة برّاك أهمية عما تحوزه باقي الملفّات، بل ربّما يتقدّمها، إذ يحمل المبعوث الأميركي في شأنه رسالة واضحة: الإدارة ترفض فصل سوريا عن المعادلة الإقليمية، وترى في استقرار النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع، عنصراً محوريّاً في أيّ تسوية مستقبلية، علماً أنها كانت أعربت في أكثر من مناسبة عن «قلقها» من التوغّلات الإسرائيلية المتكرّرة جنوب سوريا، وذلك خشية تقويض جهود تثبيت الدولة السورية.
وهنا، يكمن جوهر الخلاف: فبينما تنظر واشنطن إلى الشرع كشريك في الاستقرار، ترى إسرائيل أنّ هذا النظام لا يزال غير قادر - بل وأيضاً غير راغب - على منع التهديدات على طول حدود سوريا، ما يبرّر، من وجهة نظرها، استمرار «العمليات الوقائية».
