A
+A
-مَن يستمع إلى جعجع بالأمس يكاد ينسى أنّه يتحدّث باسم حزبٍ له تاريخ دموي ثقيل في الحرب، وأنّ الرجل نفسه أمضى سنوات طويلة في السجن بعد إدانته في ملفات سياسية حسّاسة خلال التسعينيات قبل العفو عنه عام 2005. هذا ليس اجتزاءً للتاريخ ولا تشويهًا، بل وقائع يعرفها اللبنانيون جيدًا. ورغم ذلك، يظهر جعجع اليوم وكأنّه فوق هذا التاريخ، نافخًا صدره بخطاب تعبوي يوزّع الاتّهامات على الجميع، واضعًا نفسه في موقع “المخلّص” الوحيد.
اللافت أنّ الخطاب لم يكن مجرّد نقد سياسي. لقد حمل لهجة تهديد مبطّنة، وإيحاءات خطيرة بإمكانية الذهاب نحو مواجهات سياسية مفتوحة، بطريقة توحي بأنّ الرجل يخاطب جمهورًا مستعدًا للاشتعال. فبدل أن يقدّم طمأنة في زمن الانهيار، اختار أن يرفع منسوب التوتّر، مستخدمًا لغة تقسيمية تشبه كثيرًا لغة الحرب الباردة بين القوى الطائفية. بدا الأمر وكأنّه دعوة غير مباشرة لإعادة الاصطفافات الحادّة، أو حتى صدامات سياسية واجتماعية، وكأنّ اللبنانيين قطعوا شوطًا طويلًا في الاستقرار حتى يستعيدوا معارك الماضي.
وما هو أخطر من النبرة هو الغياب المدقع لأيّ مضمون حقيقي. جعجع الذي يُفترض أن يكون لاعبًا أساسيًا في “المعارضة”، لم يقدّم خطّة، ولا حلًا، ولا سياقًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا قابلًا للقياس. اكتفى بخطاب استعراض عضلات سياسي، وبحشد الكلمات الكبيرة، وبالتلويح بسلطة معنوية لا تستند إلا إلى ذاكرة حزبية مغلقة، وليس إلى مشروع فعلي لإنقاذ لبنان.
وما يزيد من خطورة هذا الخطاب أنّه يأتي في لحظة تحتاج فيها الساحة المسيحية واللبنانية إلى ما هو أبعد من الاستقطابات. فالمصلحة الوطنية اليوم تتطلّب خطابًا يفتح الأبواب لا يغلقها، ويبحث عن تسويات لا يطيح بما تبقّى منها. أمّا المصلحة المسيحية، التي يفترض أن يكون جعجع أحد حرّاسها السياسيين، فهي لا تُصان بتوتير الشارع ولا بتكريس صورة أنّ المسيحيين محشورون في زاوية المواجهة الدائمة. فحين يقدّم التيار الوطني الحر خطابًا أكثر انفتاحًا وميولًا إلى البحث عن حلول مشتركة، مهما كانت الملاحظات عليه، يبدو أنّ جعجع يتعمّد الذهاب عكس الاتجاه، وكأنّ حاجة الساحة المسيحية إلى التهدئة وبلورة مشروع وطني جامع ليست أولوية لديه. بذلك، لا يضرّ فقط بالاحتمال الضئيل المتبقي لبناء تفاهمات وطنية، بل يساهم أيضًا في تمزيق ما بقي من وحدة الموقف المسيحي الذي يحتاج اليوم إلى العقلانية أكثر من أيّ وقت مضى.
اللبنانيون يعرفون تمامًا لغة شدّ العصب. يعرفون كيف تُستخدم لإخفاء العجز. يعرفون أنّ السياسي الذي يرفع صوته كثيرًا، غالبًا ما يفتقر إلى البدائل الحقيقية. وفي خطاب جعجع الأخير، ظهر هذا العجز بوضوح: هجوم دائم، تحريض مبطّن، أمّا البناء؟ فلا شيء. أمّا الاعتراف بدور القوى التي ينتمي إليها في إنتاج النظام الذي أوصل البلد إلى الهاوية؟ فذلك من المحرّمات.
كثيرون كانوا ينتظرون من جعجع أن يقدّم شيئًا جديدًا، أن يخرج من أسر التاريخ ومن عقد الماضي، وأن يظهر كسياسي ناضج قادر على لعب دور بنّاء بدل أسلوب “المواجهة مقابل المواجهة”. لكن ما حصل كان العكس: استحضار لروح زمن لم يعد اللبنانيون قادرين على تحمّله، وزرع لمزيد من المخاوف بدل الحلول.
في النتيجة، بدا خطاب جعجع أشبه بمشهد من الماضي، مضمونه قليل، نبرته عالية، وخطورته في أنّه يستبطن عودة إلى لغة الانقسام. لبنان اليوم يحتاج إلى من يخفض الحرارة، لا من يصبّ الزيت على نار لم تنطفئ أصلًا.
