الأخبار: فراس خليفة-
عند نقطة تُجاوز شُعاع الـ500 متر المُحدَّد على الخريطة باللون الأحمر، راقبت زينب رميتي كيف تلاشى بيتها المُكوّن من ثلاث طبقات أمام ناظريها بفعل صاروخ واحد فقط. هكذا قرَّر جيش العدو أن يُنفّذ «حُكم الإعدام» بأحد بيوت بلدة المجادل الجنوبية (صور) بذريعة «تخزين السِّلاح»، كما في كلّ «الاستهدافات» الأخيرة للمنازل، وهو ما كذّبته روايات الجيش اللبناني أكثر من مرَّة.
زينب التي ظلّت لأيّام تسأل «طيب ليش بيتي أنا؟»، لم تكن تقصد المفاضلة بين بيتها وبيوت جيرانها وأهل قريتها، لكنها كانت تبحث فعلاً عن سبب مُقنِع لاختيار منزلها الزوجي ضمن خريطة الإنذارات، المسبوقة عادة بعبارة «إنذار عاجل إلى سكان جنوب لبنان». تستدرك المرأة الجنوبية وأقاربها بالقول إنّ المطلوب أساساً، عبر هذا النوع من الاعتداءات، هو التحريض على المقاومة في حرب متواصلة من طرف واحد منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024.
«لم تكن تعلم»!
في حكاية «استهداف» بيت زينب ثمّة ما يتشابه مع ما حصل لبيوت أخرى استُهدفت بالطريقة ذاتها في الأشهر التي تلت وقف الحرب الموسَّعة.
في أصل فكرة إرسال «الإنذارات» كجزء من الحرب النفسية ضد السكان المدنيين، وفي معنى أن «تَشطُب» البيت من الحيّز المادي وما يعنيه ذلك من استهداف لأمان الناس في حياتهم اليومية وضرب علاقة الجنوبيين خصوصاً بمنازلهم التي بنوها و«كبّروها ووسّعوها» بأموال اغترابية بنسبة كبيرة. لكن في حالة زينب، كان ثمّة ما يدعو لإعادة سرد الرواية.
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بقليل من يوم الخميس الماضي. وكان الجميع تقريباً في بلدة المجادل الجنوبية - باستثناء زينب رميتي - قد عَلِم بمكان الاستهداف المحدّد في خريطة إنذارات جيش الاحتلال. «تلفوني كان معي بس ما كنت فاتحتو، وما شِفْت الإنذار». تقول زينب. اتَّصل أولاً والدها وقال لها إنّ هناك تهديداً إسرائيلياً لبيت في محلّة «شوعا»، المتداخلة مع الشهابية حيث يقع منزلها. «ضَهّري الولاد شي نص ساعة وبترجعي».
كانت زينب تهمُّ بإقفال البوابة الحديدية للمدخل الخارجي مصطحبة وَلَدَيْها فاطمة ومحمد إلى «الدرس الخصوصي» اليومي بعد أن انتهوا للتّو من تناول غدائهم. «قلت بوصّلهن عند المعلمة وبشوف وين الضربة وبرجع، بس ما كنت لحظتها متخيّلة ولا واحد بالمية انو بيتي المستهدف».
وَصَل شباب «الهيئة الصحّية» أولاً. سألوها إذا ما كان هناك أشخاص ما زالوا في البيت أو في بيت جيرانها المجاور وطلبوا منها المغادرة من دون تأخير. «أوعى يكون بيتي المستهدف؟»، سألت زينب. «قولوا لي إذا بيتي لجيب غراضي مش مضَهّرة معي شي». قالوا لها إنّ «الضربة المتوقعة في محيط منزلك، لسنا أكيدين بعد»، في كلمات توحي إمّا بالالتباس الحاصل في تحديد المنزل وإما بدافع التخفيف من وقع الخبر عليها. في طريقها إلى بيت أهلها كان أحد أقربائها يقول لها على الهاتف: «الله يعوّض عليكي». عبارة ستنزل عليها وقع الصاعقة، وستتكرَّر على مسامعها لاحقاً ومراراً طوال الأيام التي تلت حصول الغارة.
الغارة تتمنّى زينب رميتي لو كان بإمكانها أن تنقذ شيئاً قبل سقوط الصاروخ الذي غيّر كل مخططاتها دفعة واحدة
ولكن بالنسبة إلى زوجة ابن المجادل موسى فريدي، المغترب في ألمانيا، «خلص... راح كل شي». المرأة التي قالت حينها «دقُّوا للجيش يجي يفتّش البيت من فوق لتحت»، لم يسعفها الوقت لتخرج أيّاً من مقتنياتها وثياب أطفالها وأوراقها الثبوتية، ولم يتمكن والدها من الوصول إلى المنزل قبل الغارة التحذيرية الأولى. «بعدني مش مصدقة. كيف يعني ضاهرة لوصّل ولادي بيقولولي معش ترجعي ع بيتك.
رح جنّ»، تقول زينب، بينما تستعيد شريط ذكرياتها في البيت الذي سكنته منذ 11 عاماً. «بيتي حلو، من أحلى البيوت، ومعه جنينة فيها خيرات وأصناف فواكه زرعها زوجي وأنا أعتني بها».
تُعدِّد بعض الأشياء والمقتنيات التي لها أهمية و«كلّها راحت مع البيت»: ألعاب الأولاد ونظّاراتهم وكتبهم ولوازمهم المدرسية وثيابهم... يا حرام تيابن الشتوية بعتلن ياهن بيهم من ألمانيا مش من زمان. ياسمين بدها السكوتر ومحمد بدّه البلاي ستايشن».
يكرّر الأولاد يومياً الأسئلة حول البيت والأغراض ويعرفون أن مَن قصف منزلهم هي «إسرائيل» بوصفها عدو الطفولة. «إحساس الطفل أنه فقد كل شيء صعب». تضيف: «كمان صور العرس أنا وزوجي، قناني عطورات، وطبعاً شوية مصاري ودهب».
«الخوف الاستباقي»
بعد توقُّف حرب الـ66 يوماً، التي دَمّرت إسرائيل خلالها نحو ثلاثين بناء سكنيّاً في بلدة المجادل، بدأت ورشة التحسين في المنزل الواقع عند سفح تل. لم يكن الأمر مرتبطاً بالحرب إذ لم تلحق به أضرار كبيرة، بل بقرار تجهيز الطابق الأرضي ليكون الرّكن الأساسي في البيت.
«كل ما كان يبعتلي جوزي شي بزبِّط فيهن ع مهلي». قبل يوم واحد فقط من الغارة التي استهدفته، كانت مهمّة تجديد البيت قد اكتملت. «ما لحّقنا تهنّينا بالقعدة الجديدة»، تقول زينب. «بيتي ملان. كله عفش جديد، في إشيا مش فاتحتها بعدها بالكرتونة. السجّادات قبل بيوم من الضربة كنت فارشتهن، الشراشف والطاولات وآيات قرآنية الخ... في كم شغلة بعد ما دفعت حقّهن. تخيّل رح ادفع حق شي ما عاد موجود. البيت قبل بيوم كنت معبيته أكل، حتى الأرغيلة جهّزتها للسهرة بنفس يوم الغارة».
هكذا تختبر زينب رميتي معنى أن يفقد الإنسان بيته فجأة. البيت كمساحة أمان جسدية ونفسية، و«لمَّة العيلة والولاد والقرايب». وهي، من خلال حديثها عن التحسينات التي أنجزتها في البيت وتجهيزه، بدت كما لو أنّها كانت تودّعه من دون أن تدري. تقول إن خسارة البيت، بهذه الطريقة، وقعها أصعب من خسارته خلال الحرب مع أن الخسارة واقعة في الحالتين. «في الحرب أنت تعرف أنها حرب، بتزعل على بيتك بس بتتقبل الموضوع. الأمر الآن أصعب رغم أن هناك إنذاراً».
وهذا هو بالتحديد مثال على كيفية خوض العدو حرباً بالإنذارات والاستهدافات. يقدّم في بياناته حججاً كاذبة ويبدي حرصه على السكّان، لكنه يقصف منازلهم وممتلكاتهم. العارفون بأدوات الحرب النفسية يلفتون إلى أن العدو من خلال نشر البيانات والخرائط وغيرها من الأساليب، يمارس ما يمكن تسميته بـ«استراتيجية الخوف الاستباقي» التي تقوم على «استخدام التهديدات العلنية والمدروسة مسبقاً لنشر الذعر في صفوف المدنيين قبل أن يحدث أي هجوم فعلي بهدف إرباك المجتمع وشلّ الحياة اليومية وخلق ضغط نفسي على القيادة السياسية». ويؤكد هؤلاء أن «الإنذار»، مثلاً، هو في الحقيقة «تهديد هدفه تحقيق الضغط النفسي وتنفيذه هو جريمة حرب».
في اليوم التالي للغارة قالت زينب رميتي لفِرَق مسح «الأضرار» وتقييم الخسائر: «بدكن ترجعولي البيت متل ما كان». والمرأة، إذ تدرك الصعوبات القائمة، قالت كلاماً عفوياً وصادقاً لشدّة تعلقها بمنزلها كما يفعل أي إنسان. وهي كلّما أعادت مشاهدة فيديو الغارة تتمنّى لو كان بإمكانها أن تنقذ شيئاً قبل سقوط الصاروخ الذي غيّر كل مخططاتها دفعة واحدة. لَو أنّ غرفة واحدة فقط من البيت بقيت سليمة. لَو..!
