أنطوان الأسمر -
يبدو المشهد الإقليمي كأنه يعيد رسم حدوده السياسية والأمنية انطلاقاً من دمشق لا من بيروت، في ظلّ تحوّل سوريا مجدداً إلى ساحة اختبار لتوازنات القوى بعد سنوات من العزلة والحرب. ومع أن لبنان يبقى في قلب الاهتمام الدولي، إلا أنه لم يعد مركز الثقل في الحسابات الأميركية أو الإقليمية، بل جزءاً من منظومة مترابطة تُدار ملفاتها ضمن رؤية موحدة تتجاوز الحدود التقليدية بين البلدين. فالسياسات تجاه سوريا ولبنان تُصاغ اليوم في سياق واحد، حيث يُنظر إلى دمشق بوصفها البوابة التي يمكن من خلالها ضبط الإيقاع اللبناني، لا العكس.
التحوّلات السورية الاستراتيجية الجارية في العلاقة مع الغرب، وإعادة التموضع مع الشرق (روسيا والصين)، تضع لبنان أمام استحقاقات دقيقة. إذ إن قدرة دمشق على ضبط حدودها ومعابرها، وتغيير نمط إدارتها لعلاقاتها الدولية، انعكست تلقائياً على ميزان القوى اللبناني الداخلي، وتحديداً على طبيعة الدور الذي كان يلعبه حزب الله في المعادلة الإقليمية. لذلك فإن المسارين السوري واللبناني يسيران اليوم في خطين متوازيين يتقاطعان عند كل منعطف استراتيجي، وإن بدا أحدهما أكثر نشاطاً في هذه المرحلة.
من الجانب الأميركي، لا تبدو واشنطن في وارد التخلي عن لبنان، لكنها تتعامل معه كملف متفرّع من مشروع أكبر لإعادة تنظيم المنطقة بعد حرب غزة والتحولات الإسرائيلية – العربية. لا تقوم المقاربة الجديدة على التدخل المباشر أو المواجهة الصدامية، بل على إدارة النفوذ من بُعد، وصناعة توازنات تتيح الحدّ من تمدد إيران من دون الانخراط في صراعات جديدة. وضمن هذا الإطار، تتعاطى الولايات المتحدة مع سوريا كمنصة يمكن عبرها تثبيت توازنات المشرق، عبر إعادة إدماجها تدريجياً في النظام العربي مقابل التزامها بضبط الحدود مع لبنان وكبح تمدد النفوذ الإيراني.
حتى الآن، لا دلائل على أن أي تقارب أميركي – سوري يتم على حساب لبنان. ولم تُظهر زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن توجّهاً أميركياً لتلزيمه لبنان، خلافاً لما سرى قبل الزيارة وبعدها. تبدو السياسة الأميركية أقرب إلى اختبار نموذج إدارة مزدوجة للنفوذ: دعم استقرار دمشق لتقليل التوتر الإقليمي، مع الحفاظ على خطوط المساعدة والدعم للبنان مفتوحة كي لا ينزلق إلى الانهيار الكامل. هذا التوازن المرن يسمح لواشنطن بالمناورة في أكثر من اتجاه، خصوصاً مع اقتراب مرحلة ما بعد الحرب في غزة، واحتمال بدء مفاوضات أوسع تشمل ملفات الحدود والطاقة في شرق المتوسط.
غير أن السؤال المركزي يبقى: هل يستطيع لبنان أن يستفيد من هذا التبدّل أم سيبقى رهينة التحولات من حوله؟ تفترض المعادلة الجديدة تفترض أن الاستقرار في سوريا ينعكس تهدئة في لبنان، لكن التجارب السابقة أثبتت أن غياب القرار الوطني المستقل يجعل بيروت أول المتضررين من أي تبدّل إقليمي. لذلك تبدو المرحلة المقبلة اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة اللبنانية على إعادة تموضعها في الخريطة السياسية المتحركة، خصوصاً أن المجتمع الدولي بدأ يتعامل معها بوصفها “ملف استقرار” أكثر من كونها “قضية سيادة”.
يقوم الرهان الأميركي، كما يقرأه كثيرون في المنطقة، على أن تحصين دمشق هو طريق غير مباشر لتحييد بيروت عن الانفجار. غير أن هذا الرهان يفترض أيضاً أن القوى اللبنانية قادرة على التقاط الإشارات والتحرك في اتجاه يعيد إنتاج التوازن الداخلي بعيداً من المحاور. فلبنان الذي لطالما شكّل مساحة تفاعل بين القوى الإقليمية، مهدّد اليوم بأن يتحوّل إلى ساحة تكيّف مع سياسات الآخرين إن لم يمتلك القدرة على المبادرة.
في المحصلة، ما يجري ليس تهميشاً للبنان بقدر ما هو انتقال لمركز القرار نحو دمشق ضمن استراتيجية احتواء شاملة. لكن مستقبل هذا الترتيب يبقى رهناً بمدى نجاح لبنان في تحويل موقعه من تابع إلى شريك، ومن متلقٍ لتداعيات الصفقات إلى مساهم في وضعها. فالتوازن الذي تبحث عنه واشنطن، وتسعى موسكو وطهران ودمشق إلى إعادة تعريفه، لن يكتمل ما لم يجد لبنان لنفسه موقعاً واضحاً في الخريطة الجديدة، يقوم على استقرار داخلي وسياسة خارجية متماسكة، لا على الانتظار القلق لما تقرّره العواصم الكبرى من حوله.
