نقلاً عن موقع الخنادق -
تشهد الساحة الإسرائيلية منذ بداية تشرين الثاني/نوفمبر تصاعدًا واضحًا في مناقشات النخبة السياسية والعسكرية حول احتمال اندلاع مواجهة جديدة مع حزب الله. لم يعد النقاش منصبًا على احتمال وقوع الحرب فحسب، بل امتدّ ليشمل شكلها المحتمل وتوقيتها ومدى عمقها الجغرافي ومستواها الميداني. في المقابل، ترجح تقديرات استخباراتية أن حزب الله أعاد استنهاض بعض قدراته التشغيلية وتماسكه الميداني، فيما تمارس واشنطن ضغوطًا دبلوماسية واضحة على تل أبيب تدعو فيها إلى ضبط النفس وتجنّب التصعيد قبل نهاية الشهر.
منظور القيادة الإسرائيلية يظهر أن خيار الحرب يبقى مطروحًا كأداة استراتيجية جاهزة للاستخدام، لكن تفعيلها مرهون بحسابات تكتيكية مرتبطة بمسار التطورات السياسية والدبلوماسية. تصريحات مسؤولين عسكريين وسياسيين أوردت أن الضربات الأخيرة يمكن قراءتها على أنها "مقدّمة" أو "بروفة" لعملية أوسع، ما يوحي بوجود خطة جاهزة تتيح تصعيدا متدرجا يبدأ بعمليات محدودة ثم يتسع ليطال مناطق داخلية في لبنان. هذا التدرج في التصور العملياتي يعكس رغبة في فرض معادلات جديدة دون الانزلاق الفوري إلى حرب شاملة، لكنه في الوقت نفسه يضع احتمال المواجهة الشاملة على الطاولة إذا فشلت محاولات ضبط الميدان أو إذا تصاعدت الردود.
في ما يتعلق بشكل الحرب المتوقع، التفصيلات المتطابقة بين كبار صناع القرار تشير إلى أن الحرب المقبلة، إن وقعت، ستكون هجومية بطابع استباقي. التصور العملياتي الإسرائيلي يركز على مزيج من ضربات جوية مركزة، عمليات كوماندوس عميقة، واستهداف منهجي للبنى التحتية العسكرية والسياسية لحزب الله داخل لبنان وخارجه، بما في ذلك ضواحي بيروت. الهدف من هذا المزيج ليس مجرد احتواء التهديد وإنما تقويض القدرة التشغيلية واللوجستية للحزب بسرعة وبقوة، مع فرض تكاليف استراتيجية على منظومته القتالية.
أما توقيت العملية، فالأوساط الإسرائيلية تشير إلى استبعاد تنفيذ عملية واسعة قبل نهاية تشرين الثاني 2025، استجابة لضغوط دبلوماسية أميركية تحثّ على التريّث. مع ذلك، يُلاحظ تكثيفًا في وتيرة الضربات والعمليات منذ مطلع الشهر، ما يوحي بأن تل أبيب تعمل على تهيئة الرأي العام المحلي والدولي لسيناريو هجومي محتمل، تحت ذريعة منع الحزب من إعادة تأهيل قواه. التقديرات الزمنية الرسمية للمدّة تتراوح بين أيام إلى أسابيع، حيث يتحدث القادة عن "أيام قتال مركّزة" تهدف إلى تدمير البنية التحتية للحزب دون الوقوع في حرب استنزاف ممتدة. في المقابل، محللون عسكريون آخرون يحذرون أن الطموحات المعلنة - ولا سيما هدف "تدمير الحزب" - قد تخرق هذا الإطار الزمني وتطيل أمد العمليات إلى ما هو أكثر تعقيدًا وخطورة.
تتبلور أهداف الحرب المعلنة حول مجموعة مترابطة: منع إعادة تأهيل قوة حزب الله ومنع تموضعه مجدّدًا على الحدود، فرض ترتيب أمني وسياسي جديد في لبنان عبر "اتفاقية" تفرض قيودًا على قدرات الحزب، نزع سلاحه كشرط للاستقرار بدعم أميركي محتمل، إقامة مناطق عازلة، والقضاء على قدراته النوعية من صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة. لكن خلف هذه الأهداف الرسمية يبرز هدف أوسع وأكثر طموحًا وهو إعادة تشكيل البيئة اللبنانية سياسياً وأمنياً بما يخدم مصالح تل أبيب الإقليمية بعد حرب غزة، وهو ما يجعل المسألة تتجاوز مجرد عمليات عسكرية تكتيكية إلى مشروع تغيير بنيوي.
من جهة المساحة الجغرافية المستهدفة، بات واضحًا أن الخريطة الإسرائيلية لا تعتبر أي منطقة في لبنان بمنأى عن الاستهداف. الخطط العملياتية تضمنت تصاعدًا من الجنوب إلى البقاع وحتى ضواحي بيروت ومراكز القيادة في العاصمة، ما يعكس تحوّلًا من سياسة الرد المحدود إلى ضرب شامل قد يتعدّى الخط الأزرق ويخترق عمق البنية اللوجستية للحزب. هذه النظرة إلى العمق تعكس رغبة في توجيه ضربات قاتلة لمراكز التصنيع والتخزين والمراكز القيادية قبل أن تتمكن المنظومة من الصمود.
داخل المشهد الإسرائيلي ثمة تباين في التقديرات: اتجاه سياسي يحرص على التنسيق مع واشنطن للحصول على غطاء سياسي مسبق وتفاهمات جانبية، واتجاه عسكري يميل إلى الحسم المباشر ويعتبر العمليات الجارية مقدمة لعمل أوسع، واتجاه إعلامي وتحليلي يرى أن الاستعدادات تشير إلى استعداد لمرحلة "ما بعد حزب الله" وليس مجرد احتوائه. هذا الاختلاف يعكس أن القرار النهائي لن يكون محضًا عسكريًا أو سياسيًا فحسب، بل ناتج تراكب مصالح داخلية وإقليمية ودولية.
الخلاصة أكثر وضوحًا مما كانت عليه قبل أسابيع: ما يجري من عمليات وتصريحات ليس مجرد تكتيك عابر، بل سيناريو قيد التنفيذ المؤجل، ينتظر اكتمال ظروفه السياسية والدبلوماسية. وتوقيت إطلاقه سيعتمد على إتمام تهيئة البيئة الدولية، خاصة مع واشنطن، أو على حدث ميداني قد يستدعي تسريع القرار. وفي كل الأحوال، التحول من استراتيجية الردع إلى استراتيجية التغيير البنيوي في تل أبيب يجعل احتمال مواجهة واسعة مع حزب الله احتمالًا قائمًا يتطلب متابعة دقيقة لخطوات الأشهر المقبلة.
