في خطاب ألقاه في ذكرى 13 تشرين، أطلق النائب جبران باسيل مبادرة جديدة لتنظيم اقتراع المغتربين، مقترحًا صيغة مزدوجة تسمح لهم بالاختيار بين التصويت لمرشّحين في دوائرهم الأصلية أو انتخاب ممثّلين مباشرين عنهم في دائرة خاصة خارج لبنان (المعروفة بـ"دائرة الـ16").
هذه المبادرة لم تأت من فراغ، بل انطلقت من رؤية واضحة لتعزيز الشراكة الوطنية وفتح الباب أمام اللبنانيين المنتشرين في الخارج للمساهمة الفعلية في صنع القرار السياسي، كحقّ دستوري وديمقراطي لطالما طالب به اللبنانيون في المهجر.
لكن في المقابل، قوبلت المبادرة بلامبالاة سياسية وسط تجاهل لجوهرها الإصلاحي، وغياب إرادة حقيقية لإعادة الاعتبار للاغتراب اللبناني كعنصر فعّال في النظام السياسي.
مبادرة باسيل تُعتبر من أبرز المقترحات الإصلاحية المرتبطة بالتمثيل الانتخابي منذ إقرار قانون النسبية. فهي لا تُعزّز فقط مشاركة المغتربين، بل تكسر احتكار القوى التقليدية للتمثيل الداخلي، وتُعيد صياغة العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر على قاعدة الحقوق لا الشكليات. كما أنّ صيغة الاقتراع المزدوج تأخذ بالاعتبار التنوّع السياسي والديمغرافي للاغتراب، وتفتح المجال لتمثيل عادل لا يُقصي أحدًا، بل يُعزّز التوازن بين الداخل والخارج.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل موقف حزب القوات اللبنانية، الذي أظهر تناقضًا لافتًا في تعاطيه مع المبادرة. فعلى الرغم من رفعه شعار الدفاع عن حقوق المغتربين و"التغيير"، إلا أنّه وقف عمليًا ضدّ المبادرة، مفضّلًا البقاء على الصيغة الحالية، حيث يصوّت المغتربون ضمن دوائر الداخل، ما يحصر تمثيلهم ضمن حسابات انتخابية ضيّقة. هذا الموقف يُشير إلى نظرة مصلحية بحتة، إذ تُدرك "القوات" أنّ توسيع دائرة تمثيل المغتربين، لا سيما في دوائر خاصّة بهم، قد يُضعف من قدرتها على توجيه الكتل الاغترابية لصالح مرشّحيها في لبنان، ويفتح المجال أمام قوى تغيير أو مستقلّين يتمتّعون بدعم فعلي في الخارج.
وبدل أن تتلقّف "القوات" المبادرة لتطويرها أو النقاش فيها، لجأت إلى تعطيل النقاش في البرلمان عبر الانسحاب من الجلسات أو رفض إدراج بند اقتراع المغتربين، متذرّعة بحجج تقنية أو قانونية، تُخفي في جوهرها خوفًا من خرق المشهد الانتخابي التقليدي.
القوات ليست وحدها في هذا الموقف، فعدد من القوى، لا سيما المرتبطة بالمنظومة التقليدية، تخشى من نتائج غير متوقّعة قد تفرزها صناديق الخارج، حيث التوجّهات السياسية أكثر تنوّعًا وتحكُّم السلطة أضعف. هذا ما يدفع بعض الكتل إلى رفض أيّ تعديل يُعيد فتح النقاش حول قانون الانتخاب أو مشاركة المغتربين بشكل موسّع.
مبادرة باسيل حول اقتراع المغتربين هي خطوة جريئة في مسار الإصلاح السياسي، وهي تُعيد الاعتبار لدور اللبنانيين المنتشرين وتفتح أفقًا جديدًا في الحياة الديمقراطية. لكنّ تجاهل القوى السياسية لها، لا سيّما الرفض الضمني من "القوات اللبنانية"، يُثبت أنّ كثيرًا من الأطراف لا تزال تتعاطى مع الديمقراطية كمجرّد أداة انتخابية، لا كمسار لبناء دولة عادلة وشاملة.
وفي ظلّ هذا الانقسام، يبقى الأمل بأن يستمرّ الضغط الشعبي والاغترابي لفرض التغيير، لأنّ الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع.