في أمسيةٍ حافلة بالرمزية والدلالات، ألقى الوزير والنائب جبران باسيل كلمة مركزية في إحياء ذكرى 13 تشرين الأوّل، لتعيد هذه الذكرى، التي تحتفي بها أوساط سياسية وشعبية في لبنان، إلى الواجهة السياسية والذاكرة الوطنية. وقد برز هذا الخطاب على أكثر من مستوى: رمزي، سياسي، واستراتيجي، ما يمنحه أهمّية تستحقّ التوقّف عندها.
أولّاً، من الناحية الرمزية، إنّ اختيار المناسبة نفسها يُعَدّ تذكيراً قوياً بمرحلة مفصلية في تاريخ لبنان: تلك التي ربطت بعودة الشرعية، بوقف الوصاية، وبمطالب السيادة والاستقلال. في خطابه، استعاد باسيل هذه الرموز، مؤكّدًا أنّ ذكرى 13 تشرين “أكبر من أن تُمحى”، وأنّها لحظة بطولة وخيانة في آن، ولحظة ميلاد مقاومة سياسية جديدة. هذا التذكير يستهدف استنهاض الوعي الجمعي، واستدعاء الهوية الوطنية التي يراها غائبة أو مُهمَّشة في خضمّ الأزمات المتتالية.
ثانيًا، من البعد السياسي، الخطاب لم يكن مجرّد استرجاع ماضٍ، بل انطلق نحو الحاضر، محمَّلاً برسائل تصعيدية واستحقاقات تشريعية. فأشار باسيل إلى أنّ التحدّي اليوم ليس عسكريًا فقط، بل استراتيجي واقتصادي، فخصّص مصطلحًا جديدًا: "13 تشرين اقتصادي"، ليعكس المخاطر التي تهدّد الكيان اللبناني من انهيار مالي أو فساد مؤسّسي أو تعطيل السلطة التنفيذية.
كما أعلن عن نيته تقديم تعديل دستوري يحدّد مهلاً للإجراءات الحكومية ويُقوّض من إمكانية تعطيل التأليف أو الإبقاء على شغور في السلطة التنفيذية. هذا التوجّه يشي برغبة في استعادة المبادرة من أروقة السلطة، ويُظهِر أن ّالتيار الوطني الحر يسعى أن يكون فاعلاً لا متفرّجًا في معادلة القرار.
ومن النقاط اللافتة التي حملها الخطاب، كانت الرسالة الإيجابية التي وجّهها باسيل إلى رئيس الحكومة نواف سلام، والتي عبّر فيها عن دعمٍ مشروط بنهج الإصلاح والحوكمة الرشيدة، مشيرًا إلى أنّ الفرصة ما زالت متاحة أمام سلام لإثبات الجدّية في الإدارة والقرار، ومُلمحًا إلى استعداد التيار لتقديم الدعم في حال ثبوت النوايا الإصلاحية.
ثالثًا، من زاوية الاستراتيجي، الخطاب يسعى إلى ترميم الثقة في النخبة السياسية (أو بناء ثقة جديدة) من خلال التمسّك بـ “البرنامج والرؤية والإصلاح”، ومطالبة بكشف حسابات المتعاطين في الشأن العام، وإعادة التوازن بين القوى والمؤسّسات. كما ركّز على الدفاع عن السيادة، ورفض الوصاية الخارجية أو الإرادات التي تسعى لفرض هيمنة خارجية على لبنان، مستنهضاً فكرة أنّ الدماء التي أريقت في 13 تشرين كانت من أجل وطن حرّ وقرار مستقلّ.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال البعد الحشدِي ـ الدعائي في هذا الخطاب: فنحن أمام منصّة جماهيرية يحرص من يطرح على تعزيز قاعدته، وتثبيت حضور سياسي يستمدّ شرعيته ليس فقط من الكتلة النيابية، بل من الزخم الشعبي. وقد ربط الخطاب بين الذكرى والمآلات الانتخابية القادمة، مع دعوة ضمنية إلى المشاركة والتصويت كحقٍّ والتزام معًا.
غير أنّ الخطاب يواجه تحديّات عدة: أولًا، القارئ المدني أو المستقل ّقد يتساءل عن مدى الجدوى في تحويل ذكرى تاريخية إلى أداة سياسية ـ انتخابية. ثانيًا، إنّ التوقعات التي يُخلقها الخطاب (إصلاحات دستورية، استعادة المال المنهوب، حكومة فعالة) ستختبر بسرعة أمام الواقع المعيشي المتردّي والمؤسسات المتعثرة. ثالثًا، أيّ خطاب يُحاول أن يجمع بين رمزية الماضي وطموح المستقبل، لا بدّ أن يُترجَم إلى خطوات ملموسة، وإلا فإن ّالجمهور الذي تعيّه الأزمات لن يكتفي بالكلمات.
في الختام، خطاب الأمس ليس حدثًا عاديًا؛ إنّه محاولة لربط التاريخ بالحاضر، واستعادة زمام المبادرة في معادلة السلطة، وإعادة صياغة الدور السياسي للتيار الوطني الحرّ في المعركة الوطنية الكبرى. إنّه مغامرة سياسية محفوفة بالمخاطر، لكنّها أيضًا شهادة على أنّ المعارك الرمزية لا تقلّ أهمّية عن المعارك الميدانية، وأنّ من لا يُدافع عن ذاكرته اليوم، قد يضيع غداً في طيّ الأحداث.