الديار: عبد المنعم علي عيسى-
تعد سوريا من أغنى بلدان العالم بمواقعها الأثرية، وعلى أرضها تلاقحت العديد من الحضارات على امتداد آلاف السنين، بدءا من «أوغاريت» على الساحل، ومرورا بالحضارة الرومانية في تدمر وبصرى الشام، ثم وصولا إلى الحضارة الإسلامية التي كانت قلعة حلب درتها الأبرز، ولا يعرف، على وجه الدقة، عدد المواقع الأثرية في البلاد، إلا إن إدلب، وحدها، تضم أكثر من 1000 موقع أثري، وفقا لموقع» مديرية الآثار والمتاحف السورية» السابقة، وقد بدأت عمليات التنقيب في سوريا أواسط القرن التاسع عشر، ومع وقوع البلاد تحت «الإنتداب الفرنسي» أنشأت «المديرية العامة للآثار» بإشراف فرنسي، وبدأت البعثات الفرنسية أولى أعمال التنقيب في العام 1924 بمدينة حمص، لتنتقل، العام 1929، إلى «رأس شمرا» على الساحل السوري، التي جرى فيها اكتشاف أقدم أبجدية عرفها التاريخ البشري حتى الآن.
مع اندلاع الأحداث السورية ربيع العام 2011 تراجعت الرقابة الإدارية على المواقع الأثرية، ثم راحت «شبكات» الحفر والتجارة، تنمو بشكل فردي لأغراض تجارية، قبيل أن تتخذ طابعا منظما أكثر على يد جماعات نافذة في النظام الذي راح يستخدم بعضا من «ريعها» لتمويل الأعمال الحربية، وبمرور الوقت راحت آليات «العمل» تشهد تطويرا لافتا، حيث أضحت تدار عبر شبكة «الإنتزنت»، وعلى فضاء هذا الأخير «يجتمع اللصوص والمهربين والتجار»، وفقا لما ذكره باحث الآثار السوري ياسر الشوحان، الذي يضيف إن «عدد أعضاء هذه المجموعات التي تعمل في ذلك الفضاء وصل إلى 2 مليون، ثلثهم على الأقل يوجدون على الأراضي السورية»، ويضيف أحد العاملين المتقاعدين من «المتحف الوطني باللاذقية»، فضل عدم ذكر اسمه، إن «تلك المجموعات، التي تقوم بتنظيم العمل، لها ارتباطات خارجية واسعة، ولها اتصالات دولية عديدة، وكثير من اللقاءات بين أطرافها تجري على الأراضي السورية بمساعدة نافذين»، وقد أضاف هذا الأخير إن «كثير من البعثات الأجنبية كانت متورطة، منذ العام 2000، في عمليات سرقة الآثار السورية»، وقد حدث هذا بعدما «تأكد لتلك البعثات أن شبكات منظمة يديرها النظام (نظام بشار الأسد) وهي تهدف إلى تأمين العملة الصعبة التي توفرها عملية الإتجار بالقطع الأثرية بدءا من العملات القديمة، ومرورا بالفسيفساء، ثم وصولا للنصب والتماثيل الحجرية الثقيلة».
شكلت لحظة انهيار النظام السوري، 8 كانون أول الفائت، فرصة سانحة لتلك المجموعات التي لم ينفرط عقدها، بل أظهرت نزعة لمضاعفة نشاطها استثمارا في تلك اللحظة، وعلى الفور باشرت تلك المجموعات حملات نهب واسعة النطاق استهدفت من خلالها عددا لا يحصى من المواقع الأثرية خصوصا في تدمر والبادية، اللذان سبق لهما أن تعرضا لتدمير ممنهج إبان سيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية» عليهما عام 2015، والجدير ذكره أن هذا الأخير كان قد قام بتفجير العديد من النصب والتماثيل بذريعة أنها «ترمز لحالة جاهلية» وفقا لما ذكرته صحيفة «النبأ»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في حينها، إلا إن الأمر لم يقتصر على تدمر ومحيطها، بل امتدت إلى «أفاميا» الأثرية، 60 كم شمال غرب مدينة حماة، و«عمريت» الفينيقية، 7 كم إلى الجنوب من مدينة طرطوس، ووفقا لمشروع البحث حول تهريب الآثار والإنثروبيولوجيا (ATHAR) فإن «ما يقرب من ثلث الحالات، البالغ عديدها 1500 حالة، التي وثقها المشروع منذ العام 2012، قد حدثت فقط منذ كانون أول الماضي»، كما ذكرت كايتي بول، المديرة المشاركة في مشروع (ATHAR)، في معرض تعليقها على تهريب الآثار السورية إن «آخر ثلاث إلى أربع أشهر كانت قد شهدت أكبر فيض من تهريب الآثار رأيته في حياتي من أي دولة على الإطلاق»، كما ذكرت صحيفة «الغارديان» البريطانية في تقرير لها نشرته يوم 8 حزيران الفائت أن «ثلث عمليات تهريب الآثار السورية، التي وثقها مشروع ( ATHAR) منذ عام 2012، وقعت فقط في الأشهر الستة الأخيرة، أي منذ سقوط نظام الأسد».
يذكر الباحث في الآثار السوري (أ. س)، والذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن «الفضاء الأزرق» تحول في غضون الأشهر العشرة المنصرمة إلى سوق «تنقيب وتصريف للآثار السورية»، ويضيف «بعد استخراج القطعة، الذي يتم بمساعدة صور للأقمار الصناعية تقدمها مواقع معينة ( تركية على الغالب) بأسعار تصل في بعض الأحيان إلى 1000 دولار للصورة، تبدأ الرحلة عبر الإنترنت الذي يشكل رابطا ما بين ( المنتج) و ( المشتري)، وعندما تتم الصفقة تعبر القطعة إلى دول مجاورة مثل تركيا والأردن، ومنهما إلى دول( المستقر) في أوربا والولايات المتحدة»، وفي تقرير لاحق لمشروع «ATHAR» حدد «اسرائيل والأردن كدولتان هما الأكثر شيوعا لتهريب الآثار السورية»، وقد أشار تقرير لموقع «عربي بوست»، نشره شهر أيار الفائت، إلى دور اسرائيلي «مباشر» في عمليات تهريب الآثار السورية، وجاء فيه «شهر شباط 2025، بالتوازي مع زيارة وفد من اليهود السوريين إلى مواقع تاريخية في دمشق، توغلت قوات اسرائيلية إلى قريتي(بريقة) و(بئر العجم) الأثريتين بريف القنيطرة، وبرفقتها باحثو آثار مزودون بأجهزة بحث متطورة، وقد أفاد شهود عيان أن هؤلاء قاموا بنقل العديد من القطع الأثرية من الموقعين»، وقد ذكر التقرير أن محمد ماجد الخطيب، الملقب بـ(كلينتون)، هو أحد أبرز المتورطين بتهريب الآثار السورية إلى اسرائيل التي انتقل إليها بعد أعوام من بدء الأحداث السورية، قبيل أن يغادرها إلى الأردن العام 2018، وليعود أدراجه إلى سوريا مطلع العام 2025، وأضاف التقرير إن «تنقلات الخطيب كانت محكومة بمهنته، وليس بأي شيئ آخر».
الآثار هي ذاكرة الشعوب، وهي أشبه بشواهد ملموسة على التاريخ والهوية والإنتماء، في حين أن فقدانها كفيل بنسف مرتكزات هذا الثالوث الأخير الذي يمثل ركنا أساسيا في بناء أي كيان، وما استباحة الآثار السورية إلا دليل صارخ على أن هذا «الثالوث» السوري يقع في دائرة الاستهداف، إن لم يكن في نقطة المركز فيها.