الديار: دوللي بشعلاني-
أعاد القرار الأخير الذي اتخذه وزير العدل (الكتائبي) عادل نصّار، بتعيين محقّقين عدليين في قضايا الإغتيالات أو الجرائم السياسية المُحالة إلى المجلس العدلي بين عامي 1978 و 2008، وعددها 11، من ضمنها 8 جرائم إغتيال ومحاولتي اغتيال، وحدث واحد يتعلّق باشتباك الشيخ صبحي الطفيلي (المنشق عن حزب الله) مع الجيش اللبناني، ولا سيما مجزرة إهدن التي أدّت إلى اغتيال النائب طوني فرنجية وزوجته وابنته وبعض مرافقيه، أعاد فتح جرحٍ عميق في الذاكرة اللبنانية.
وطال هذا الجرح الساحة المسيحية بالدرجة الأولى، التي ما زالت تحمل إرث الحرب الأهلية وانقساماتها. والقرار الذي وُصف بـ"التاريخي" قانونياً، تحوّل سريعاً إلى عاصفة سياسية وإعلامية حملت في طيّاتها خلافات دفينة بين أركان "البيت المسيحي"، لا سيّما بين "القوّات" و"الكتائب" ، إذ جرى تراشق الاتهامات بين رئيسي الحزبين سمير جعجع وسامي الحميّل.
ان تعيين محقّقين عدليين في قضايا الاغتيال السياسي، تجده مصادر سياسية مطلعة، خطوة غير مسبوقة منذ التسعينات، تهدف إلى إعادة تحريك ملفات ظلّت مجمّدة بفعل التعقيدات السياسية والعفو العام. وهذا القرار يعني استئناف مراحل التحقيق (جمع أدلة، استدعاء شهود، إصدار قرار اتهامي أو عدمه)، ثم تحويل الملف إلى المجلس العدلي في حال صدرت لائحة اتهام عن الجرائم السياسية، وبدء المحاكمات الخ... ومن أبرز تلك الملفات قضية إهدن، التي تعود إلى واحدة من أكثر الأحداث مأسوية في الحرب اللبنانية، حين قُتل النائب فرنجية وزوجته وابنتهما وعدد من المرافقين، في هجوم مسلّح على منزله في إهدن.
غير أنّ قرار الوزير نصّار، على ما تلفت المصادر، أثار العديد من التساؤلات حول توقيت نبش هذه الملفات تحديداً، وفي هذه المرحلة الحسّاسة بالذات، التي تتحضّر فيها الأحزاب والقوى السياسية للانتخابات النيابية المقبلة. كما عن أهداف اختيار عدد من الاغتيالات السياسية دون سواها، وكيف يمكن اعادة فتح بعض الجرائم التي حصلت في سبعينات أو ثمانينات أو تسعينات القرن الماضي، وأخرى حصلت بعد العام ألفين، وآخرها مقتل الشيخ صالح فرحان العريضي في العام 2008.
كما وقرّر وزير العدل على سبيل المثال، إعادة فتح قضية محاولة اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون في محلّة الدورة، بواسطة سيارة مفخخة والتي تعود إلى 12 آذار 1980. علماً بأنّها أدّت حينذاك إلى إصابته بجروح وليس إلى مقتله، بل أدّت إلى مصرع أحد مرافقيه.
في الوقت نفسه، أكّدت مصادر قضائية أنّ نصّار استند في قراره الأخير على مراجعة ملفات الإحالة القديمة في المجلس العدلي. وأن الهدف ليس إعادة محاكمة أحد، بل التثبّت من إمكانية استكمال التحقيقات عبر لجان مستقلّة. إلا أنّ ذلك لم يمنع الانفجار السياسي داخل البيئة المسيحية.
وفي ما يتعلّق بإعادة فتح مجزرة إهدن، الأقدم من بين جميع الاغتيالات السياسية التي طلب نصّار تحريكها مجدداً، فإنّ رئيس "القوّات" سمير جعجع الذي ارتبط اسمه تاريخياً بهذا الملف منذ الثمانينات، قبل أن يُفرج عنه لاحقاً بعفو عام في سنة 2005، لم يتأخّر في التعليق على خطوة نصّار. ففي حديث صحافي، أكّد جعجع أنّه يدعم مبدأ تعيين المحققين العدليين، شرط أن تكون الخطوة قانونية وشفافة، محذّراً من "محاولات إفشال التحقيق أو تسييسه"، قائلاً: "إذا حاولوا إحباط المحقق العدلي أو إفشاله، فسنواصل المسعى للوصول إلى ما يرضي الشهداء والحقيقة".
هذا الموقف فسّره مراقبون على أنّه محاولة إستباقية من جعجع، لحماية نفسه وحزبه من أي إستهداف سياسي، في ظلّ الحديث عن احتمال إعادة النظر في بعض الملفات القديمة. وأكدت أوساط "القوات" أنّ جعجع "ليس خائفاً من أي تحقيق"، لأن كل ما جرى في الحرب كان في سياق مواجهة، وأنّ فتح الملفات اليوم يجب أن يشمل كل الأطراف لا فئة واحدة.
في المقابل، فإنّ تراشق الاتهامات بين رئيس "الكتائب" سامي الجميّل وجعجع، إذ تحدّث الجميّل علناً عن "مسؤوليات" تاريخية في مجزرة إهدن، مشيراً إلى أنّ العدالة يجب أن تطال "كل من شارك أو غطّى الجريمة مهما كان موقعه". وفي منشورات تداولها ناشطون محسوبون على "الكتائب"، وُجّهت اتهامات مباشرة إلى جعجع بأنه كان أحد القادة الميدانيين في العملية، في حين ردّت أوساط قواتية باتهام الجميّل، بأنّه يستغلّ القضاء لتصفية حسابات حزبية، هذا التراشق تعتبره المصادر السياسية في غير أوانه، ومن شأنه فتح باب الفتنة في الصفّ المسيحي.
ورغم أنّ جعجع لم يردّ شخصياً على الجميّل بالاسم، على ما تشير المصادر، فإنّ تصريحه الأخير عن ضرورة "منع التلاعب بملفات الحرب القديمة"، فُسّر على أنّه رد غير مباشر على اتهامات "الكتائب"، في محاولة لاحتواء التوتر وعدم الانزلاق إلى مواجهة إعلامية مفتوحة بين الحزبين.
ومن الواضح أنّ القرار القضائي فجّر خلافاً أوسع بين الحزبين الحليفين. فبينما رأى "الكتائبيون" في خطوة وزيرهم "محاولة لتكريس العدالة بعيداً من المساومات السياسية"، رأت "القوّات "فيها "خطوة إنتقائية" تستهدف مرحلة محددة دون غيرها، وتخدم إعادة تلميع صورة "الكتائب" عشية أي استحقاقات انتخابية مقبلة.
في المقابل، حاولت أطراف مسيحية أخرى، كـ"التيار الوطني الحرّ" و"تيار المردة"، الاستفادة من هذا التباين عبر الدعوة إلى "محاسبة شاملة للحرب الأهلية"، في ما يشبه إختباراً للنيات بين القيادات المسيحية المتنافسة على تمثيل الشارع السياسي في الشمال والجبل. وتعامل "تيار المردة" بحذر مع السجال الدائر بين "القوات" و"الكتائب"، فشدّد على أنّ "العدالة ليست انتقاماً، بل كشف للحقيقة وكرامة للشهداء".
أمّا رئيس "المردة" سليمان فرنجية المعني مباشرة بهذا الملف، فيتجنّب الدخول في "سجالات الماضي"، لكنّه "لن يقبل أن تتحوّل مجزرة إهدن إلى ورقة للمزايدات". وهو يدعم بالتالي أي تحقيق قضائي نزيه "شرط أن يشمل جميع الجرائم التي طالت اللبنانيين في زمن الحرب". وهذا الموقف المتحفّظ والمراقب، يجعل فرنجية يسعى إلى الحفاظ على رمزية الشهادة العائلية، من دون الانجرار إلى الاصطفافات الطائفية أو الحزبية، لكنه في الوقت ذاته يُذكّر الجميع بأنّ العدالة الإنتقائية لا تُعيد الثقة بالدولة، بل تفتح أبواب الإنقسام مجدداً.
ولكن من الناحية القانونية، على ما تؤكّد مصادر قضائية، فإنّ محاكمة جعجع أو اتهامه أو أي طرف آخر، بعد مرور 47 عاماً على جربمة إهدن، هو أمر شبه مستحيل. وفي ظلّ قانون العفو العام (القانون رقم 84/1991)، الذي منح عفواً واسعاً عن معظم الجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية مع استثناءات محدودة، كما تنص مواد القانون على استثناء بعض الجرائم المحالة سلفاً إلى المجلس العدلي، فإنّ الأمر يبدو معقّداً بعض الشيء. لكن إعادة فتح الملفات أمام محققين دوليين، قد تتيح للضحايا وعائلاتهم حقّاً رمزياً في معرفة الحقيقة ،حتى إن لم تفضِ إلى محاكمات. والخطر السياسي يكمن في تحويل العدالة إلى أداة صراع حزبي، ما قد يعيد الساحة المسيحية إلى مربع الانقسام والتناحر القديم.
وتختم المصادر السياسية بالقول بأنّه بين نيّات نصّار المعلنة على أنها إصلاحية، ومواقف جعجع الدفاعية، وهجوم الجميّل الإتهامي، يبدو أنّ ملف إهدن عاد ليتحوّل من جريمة إلى ساحة مواجهة سياسية. فالقرار القضائي الذي كان يُفترض أن يكون خطوة نحو العدالة والمصالحة، أصبح امتحاناً جديداً للعلاقات بين القوى المسيحية، وللقدرة اللبنانية على التعامل مع ذاكرة الحرب لا كوسيلة انتقام، بل كطريق إلى الحقيقة.
أمّا قرار نصّار فمن المرجّح أنه أطلق شرارة عمليات قضائية، قد تحوّل خرائط الذاكرة السياسية في لبنان. والنتائج لن تكون محصورة في قاعة محكمة وحدها، إنها اختبار لقدرة النظام القضائي على مواجهة الملفات الحساسة، وللنضج السياسي لدى القوى المسيحية، كي تكون هذه الخطوة مدخلاً للحقيقة لا لهدر السلم الأهلي.