في مسيرة الأوطان محطّات تختصر معنى الوجود، وتغدو رموزًا مقدّسة ترافق الشعوب عبر الأجيال.
ويوم الثالث عشر من تشرين الأوّل ١٩٩٠ كان لتاريخ لبنان أشبه بالجمعة العظيمة في حياة الكنيسة: يوم احتُلّت فيه المنطقة الحرّة، وسقطت آخر بقعة تُجسّد حلم الدولة المستقلّة، فكان المشهد أقرب إلى موت المسيح على الصليب.
ذلك اليوم لم يكن خسارةً عسكريةً أو سياسيةً فحسب، بل سقوطًا في الظلمة.
خيرةُ شبابِ لبنان استُشهدوا أو سُجنوا، عائلاتٌ تشرّدت، والقصرُ الجمهوري الرمز تحوّل إلى قلعةٍ محطّمة.
ساد الصمتُ في النفوس المكسورة، وكأنّ الشعبَ بأسره دُفن في القبر، ولم يبقَ سوى الرجاء ، تمامًا كما انتظرت النسوة على باب القبر في أورشليم والظلمة تغطّي الأرض.
غير أنّ القبر لم يكن النهاية.
خمسةَ عشر عامًا من الاحتلال والقمع والوصاية مرّت كليلٍ طويلٍ لا ينتهي. طورد الأحرار، وساد التخويف والفساد، وحاولت آلةُ الاستبداد طمسَ الهوية الوطنيّة وإخمادَ شعلة الإيمان.
لكنّ شعلة تشرين ظلّت متّقدة في الصدور: في سرّ المقاومين وصلوات الأمهات، وفي وجدان الاغتراب الذي لم ينسَ.
في السجون كانت الإرادة تتحدّى الجدران، وفي المنافي كان الصوت الحرّ أقوى من الحديد والنار. نُفيَ القادة، وتوزّع المقاومون بين الزنازين والبلدان، لكنّ الإيمان بالقضيّة ظلّ واحدًا، راسخًا كالصخرة التي لا تذوب أمام العواصف.
ومن رحم المعاناة وُلِدت حركةُ الوعي والمطالبة المتمثلة بالتيار الوطني الحر، فخرجت المظاهرات في الجامعات والقرى، وارتفع الصوت في الشوارع والكنائس والساحات.
وفي الانتشار اللبناني، تحوّلت الغربة إلى ساحة نضال جديدة. من باريس إلى مونتريال، ومن سيدني إلى واشنطن، حمل شباب التيّار لواء القضيّة اللبنانية بإيمانٍ وشجاعةٍ لا تعرف الكلل.
في الولايات المتحدة، نظّموا المسيرات أمام البيت الأبيض والكونغرس، والتقوا بمشرّعين وصحافيين وناشطين دفاعًا عن قضيّة الحرية والسيادة والاستقلال .
كانوا رسلَ لبنان في زمن العتمة، ينقلون صرخة وطنهم إلى دوائر القرار العالمي، ويُقنعون العالم بأنّ الاحتلال السوري ليس “حمايةً للبنان” بل احتلالٌ لأرضه وقرارِه وكرامتِه.
ومن نضالهم ولدت مبادراتٌ وتشريعات، كان أبرزها “قانون محاسبة سوريا” عام ٢٠٠٣، الذي شكّل محطةً تاريخية في مسار الكفاح السياسي اللبناني في الخارج.
كان ذلك القانون ثمرةَ إيمانٍ وعملٍ دؤوب من المنتشرين الذين آمنوا بأنّ المقاومة ليست بالبندقية فقط، بل بالكلمة الحرة، وبالضغط الدبلوماسي، وبالتمسّك الدائم بحقّ لبنان في السيادة والحرية والكرامة.
كان الألم بذارًا يُسقى بالصبر، وكان الجرح يتحوّل بمرور الزمن إلى شهادةٍ على الإيمان بالحرّية، إلى صمتٍ يحمل وعد القيامة.
وجاء السادس والعشرون من نيسان ٢٠٠٥ كالقيامة المنتظرة: يومَ انسحب الجيشُ السوري من لبنان وتنفّس الوطنُ هواءه الحرّ من جديد.
كان ذلك الصباح شبيهًا بالفجر الذي أشرق على القبر الفارغ، فبان أنّ الدماء لم تذهب هدرًا، وأنّ الألم لم يكن عبثًا.
فالحرّية التي عادت لم تكن منّةً، بل ثمنًا دفعه جيلٌ كاملٌ بالإيمان والصمود والتضحيات.
وهكذا تعلّمنا روحُ الثالث عشر من تشرين أنّ لا قيامة بلا صليب، وأنّ الحرّية تولد دومًا من عمق الجراح.
ليست ذكرى هزيمة، بل إنجيل مقاومةٍ ورسالةٌ إلى الأجيال: أنّ لبنان، مهما طال دربه في الجلجلة، يحمل في قلبه وعد القيامة.
فكما قام المسيح وبدّد ظلمة الموت، كذلك قام لبنان بعد تشرين ليؤكّد أنّ الشعوب لا تُكسر إلّا إذا دفنت إيمانها بقضيّتها.
إنّ هذا اليوم ليس حدادًا على سقوطٍ مضى، بل احتفالٌ ببقاء الروح التي لم تُقهر، وبالمناضلين الذين أثبتوا أنّ الحرّية أغلى من الحياة، وأنّ الأمم لا تعيش بالخبز وحده، بل بالكرامة والرجاء والدماء التي تُكتب بها صفحات التاريخ.
*نائب رئيس التيار الوطني الحر للعلاقات مع الأحزاب الخارجية