أنطوان الأسمر -
لم يكن مسار الحرب على غزة منذ اندلاعها قبل سنتين مجرّد مواجهة عسكرية بين إسرائيل و"حماس"، بل شكّل لحظة مفصلية أعادت خلط الأوراق في الشرق الأوسط وفتحت الباب أمام إعادة تعريف موازين القوى في الإقليم. ومع التوصّل رسميًا إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة برعاية أميركية - قطرية – مصرية - تركية، تدخل المنطقة طورًا سياسيًا جديدًا تتداخل فيه الحسابات العسكرية مع التفاوض السياسي، وتتحوّل ساحات الاشتباك إلى حقول نفوذ ديبلوماسي. ويقف لبنان تحديدًا في قلب هذه التحوّلات، ليس فقط بصفته طرفًا متأثرًا بما يجري، بل أيضًا باعتباره ساحة صراع مفتوحة وأحد خطوط التماس الأساسية في مشروع إعادة رسم خرائط النفوذ.
لم يأتِ اتفاق غزة بمعزل عن الجبهة اللبنانية التي شكلت على مدار سنة كاملة جبهة دعم وإسناد، وفق تعبير "حزب الله". ومع تثبيت وقف النار في القطاع، ينتقل الضغط السياسي والديبلوماسي إلى الجنوب اللبناني، حيث يسعى المجتمع الدولي بدفع أميركي وفرنسي إلى استكمال الاتفاق بخطوات تطال الحدود الشمالية لإسرائيل.
عمليًا، أصبح السؤال المطروح: هل يتحوّل وقف النار في غزة إلى قاطرة تسويات، أم يقرّر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التفرّغ لحربه على حزب الله؟ المؤشرات الأولى توحي بأن ثمة اتجاهاً لترتيبات بين لبنان وإسرائيل تتدارك استمرار الحرب أو استعارها. فواشنطن أعلنت صراحة أن تثبيت الهدنة في غزة يجب أن يواكبها تفاهم لبناني–إسرائيلي جديد. تل أبيب، من جهتها، ربطت وقف حربها الأحادية بتحييد "حزب الله" وإبعاده عن الحدود، معتبرة أن "أمن الجليل جزء من أي اتفاق". أما الحزب فبدأ يدرس بدقة كيفية التعامل مع الضغوط المطروحة، رافضًا أي صيغة قد تُعتبر ثمنًا يدفعه لاتفاق غزة من دون مكاسب مقابلة.
محليّاً، لم يتأخر الانقسام في الظهور.
1-محور ممانع يعتبر أن صمود حركة حماس في غزة ثبّت معادلة ردع جديدة، وفرض على إسرائيل التفاوض تحت ضغط القوة. هذا المناخ يعزز موقع "حزب الله" السياسي، ويتيح لطهران مزيداً من الاستثمار والتوظيف.
2-قوى مناوئة ترى أنّ وقف الحرب يشكّل فرصة تاريخية لإعادة تثبيت مبدأ الشرعية الواحدة وحصرية السلاح، وهو ما سيُطرح بقوة في أي حوار داخلي مقبل برعاية خارجية.
بذلك، لا يمكن فصل وقف الحرب عن جدل أوسع سيعاود الظهور: ما هو موقع لبنان في المعادلة الإقليمية؟ هل يبقى جزءًا من محور المقاومة أم يتجه إلى الحياد؟ وهل اتفاق غزة يفتح الباب أمام مقايضة داخلية عنوانها تسوية سياسية خارجية مقابل تسوية داخلية؟
من المتوقع أن تتبلور في ضوء اتفاق غزة تفاهمات قد ترجّح إمكان العودة إلى إطلاق إصلاحات اقتصادية محدودة، وتثبيت الحدود الجنوبية بضمانة سياسية. من هنا، يتحضّر الداخل اللبناني لمرحلة اصطفاف جديد يُعيد خلط الأوراق. ويعوّل على أن يشكّل الاتفاق نافذة تنفّس اقتصادي للبنان. فالمؤسسات المالية الدولية والدول المانحة تترقب تهدئة إقليمية لتفعيل برامج الدعم المجمدة. وهناك حديث عن حزمة مساعدات للبنان قد تكون مشروطة بخطة إصلاحية تدريجية وترتيبات أمنية على الحدود. كما أن مشاريع إعادة إعمار غزة قد تمنح لبنان دورًا اقتصاديًا لوجستيًا عبر مرفأ بيروت أو طرابلس.
لكن الخطر يكمن في إضاعة الفرصة مرة جديدة. قد تجعل الهشاشة السياسية والاختناقات المالية من لبنان مجرد متفرّج على قطار التسويات بدل أن يكون جزءًا منها.
في أي حال، على الرغم من وقف النار، تبقى المنطقة أمام هدنة قلقة. التصعيد قد يجد طريقه مجددًا عند أول اختبار. يبحث نتنياهو الذي خرج من حرب غزة بلا انتصار واضح عن خشبة خلاص سياسي داخلية، وقد يرى في لبنان ساحة مناسبة لإعادة فرض هيبته داخلياً. أما إيران، فستسعى إلى توظيف تماسك محور المقاومة لحجز موقع تفاوضي في الملف النووي. وبينهما، يقف لبنان أمام حسابات دقيقة: كيف يحافظ على ردعه من دون الانزلاق إلى حرب شاملة؟ وكيف يوازن بين شروط التهدئة ومتطلبات السيادة؟
تأسيس على هذا المشهد، يصبح اتفاق غزة ليس نهاية حرب، بل بداية مرحلة سياسية جديدة في الشرق الأوسط. ولبنان، بحكم موقعه الجغرافي وتركيبته السياسية ووضعه الأمني، سيكون أحد أكثر المتأثرين بنتائج هذا الاتفاق. هو أمام ثلاثة مسارات محتملة:
أ-مسار الفرصة: تثبيت تهدئة شاملة تحول الجنوب إلى منطقة استقرار برعاية دولية وإطلاق ورشة إصلاح داخلي.
ب-مسار التسوية المشروطة: ربط الحل الأمني بتسوية سياسية في السلاح خارج الدولة وغيره، مع بقاء لبنان في دائرة النفوذ الإقليمي.
ج-مسار الانفجار المؤجل: هدنة هشة تتحول إلى مواجهة مفتوحة عند أول خلاف حول شروط التنفيذ.