ابراهيم الأمين -
الأكيد، أنّ من يريد الحديث عن شخصية الشهيد السيد هاشم صفي الدين، عليه، بذل الجهد الكافي، لتقديم سردية تُنصف الرجل. وهي مهمّة صعبة وشاقة. لأنّ فيها الكثير من التفاصيل. وليس سهلاً جمع تجربته الخاصة في أسطر أو صفحات قليلة. من البدايات في الشياح، ثم انتقاله إلى طلب العلوم الدينية، إلى عودته وانخراطه في العمل الحزبي، متدرجاً في المسؤوليات وصولاً إلى تولّي نصف مهمات الأمين العام قبل سنوات على استشهاده.
لكنّ السيد هاشم، الذي يشبه في أمور كثيرة رفيق دربه الشهيد السيد حسن نصرالله، كانت لديه الآراء الخاصة حيال أمور كثيرة، سواءً ما يخصّ الحزب وتركيبته الداخلية وإدارة العمل اليومي فيه، أو في ما يخص الوضع العام في البلاد. وكان لمسؤوليته المباشرة في متابعة كل الأطر والمؤسسات التي تخص علاقة الحزب بالناس، ما سمح له بتكوين رأيه الشخصي في أمور كثيرة تخصّ مستقبل البلاد.
لكنه، كان دائم التوضيح، بأن رأيه الشخصي، لا يُلزم الحزب، وفي نهاية كل نقاش، يدافع عن قرار قيادة الحزب، ولو كان فيه ما فيه من شوائب.
ولأن قصة السيد هاشم، تحتاج إلى جهد خاص، سوف أختصر في هذه المقالة، للحديث عن آخر لقاء جمعني بالراحل الكبير، الذي كان صديقاً ودوداً، ومسؤولاً منفتحاً على كل الأمور، ومتفاعلاً مع القضايا والعناوين، وراغباً متحفّزاً للتعرف إلى أشياء كثيرة في هذه الدنيا.
بعد اغتيال القائد الجهادي فؤاد شكر، صيف عام 2024، انتقل حزب الله في إجراءاته إلى مستوى جديد. كان الجميع في حالة حيرة إزاء فهم عقل الحزب في هذه المرحلة.
لماذا لا يبادر إلى الحرب الواسعة، وهل هو مقتنع بأن إسرائيل لن تتمادى أكثر في ضرباتها. لكنّ النقاش الذي شهدته قيادة المقاومة حول طريقة الرد على اغتيال شكر، عكست في جانب منها فهم الحزب للمعطيات، لكنّ القرار الذي اتُخذ، لا يعكس بالضرورة حقيقة الأسباب التي دفعت إلى اختيار هذا الأسلوب. وحتى اليوم، فإن أسئلة كثيرة حول ما كان يجري، لا تزال من دون أجوبة.
هذا لا يعني أنه لا يوجد أجوبة، لكنّ الأكيد، أن الأمر بات رهن ما تقوم به لجان التقييم والتحقيق التي شكلها الحزب بعد توقّف الحرب. علماً أنّ جانباً من هذه اللجان، كان يفترض أن ينطلق مباشرة بعد تنفيذ العدو لعملية «البيجر»، عندما اتخذ الشهيد السيد حسن نصرالله قرارات بتجميد عمل بعض كبار المسؤولين، وطلب المباشرة في التحقيق لمعرفة ما الذي حصل. لكنّ، توسع الحرب وتدحرجها السريع، أخذ الأمور صوب مكان آخر.
في تلك المدة، كان السيد هاشم، في وضع خاص. الجميع يعرف بأنه الرجل المرشح لتولي مهمات الأمين العام في حال أصاب السيد نصرالله أي مكروه. علماً أنّ السيد حسن، كان بدأ تفويض السيد هاشم بعدد من المهمات، وأحال إليه ملفات كثيرة، لم تكن يوماً في صلب مهماته كرئيس للمجلس التنفيذي.
وهو ما دفعه إلى توسيع دائرة علاقاته داخل الحزب وخارجه، وأذكر جيداً، كيف كان يلحّ في طلب أفكار جديدة للعمل، ويسأل عمّن يُفترض أن يلتقي بهم من خارج جسم الحزب أو حتى من خارج دائرة الأصدقاء القريبين. وهو حافظ على وتيرة عالية من التواصل حتى في الأسابيع الأخيرة قبل نقطة التحوّل منتصف أيلول.
يوم قرّر حزب الله الرد على اغتيال شكر. صار نقاش كبير حول الأمر. وحول الطريقة ربطاً بتقدير الحزب للأمور عسكرياً وسياسياً. وبعد تنفيذ العملية أواخر آب 2024، انتقل السيد هاشم مثل بقية قيادة الحزب، إلى مستوى جديد من الإجراءات الأمنية.
صارت اجتماعاته محصورة في مناسبات محددة وفي أمكنة مختلفة أيضاً. حتى إجراءات الأمن الخاصة به، تم تعديلها بشكل ملحوظ. لكن، يبدو أن السيد هاشم، بقي مصراً على عدم حبسه في مكان منعزل. كان لديه نكتة: يكفينا القيود على واحد ما. في إشارة إلى الظروف الصعبة التي تحيط حياة السيد حسن.
قبل أيام قليلة من عملية «البيجر»، التقينا في مكان جديد لم أزره من قبل. كان السيد هاشم مهجوساً بالجانب الأمني من المعركة. يدقق في أحاديث سابقة عن تقدير موقف العدو، وإلى أي حدود يمكن أن يذهب. وكان النقاش قد انتقل إلى مستوى آخر، فيه سؤال مركزي حول سبب امتناع الحزب عن الدخول في المواجهة الشاملة.
وفي معرض شرحه، تطرّق السيد هاشم إلى عملية «يوم الأربعين» التي حصلت رداً على اغتيال شكر، استنفرت كلّ حواسه وهو يقول: «تعرف، لقد اتخذنا إجراءات دقيقة جداً في اختيار العمل، واتفقنا على آلية تسليم القرار التنفيذي إلى المعنيين.
ورتبنا كل شيء بطريقة خاصة، بما في ذلك تحديد الساعة والدقيقة التي تقرّر أن تنطلق فيها الصواريخ والمسيّرات. تم تضييق دائرة المطّلعين على التوقيت الفعلي، ثم اعتمدنا آلية جديدة لإيصال القرار إلى المعنيين بالتنفيذ.
كنا نفترض أنه سيكون من الصعب على العدو فهم ما يحصل بالضبط. صحيح، أن العدو أظهر لنا عن قدرات رقابة تقنية عالية جداً، وهو ما كنا فهمناه جراء عمليات اغتيال الكوادر والمقاتلين خلال حرب الإسناد. لكن، ليس عندنا ما يحسم الجدل حول الاختراق البشري»...فجأة يصمت السيد هاشم ليُضيف: «لكن، يبدو أن العدو علِم بالتوقيت الدقيق للعملية...كيف حصل ذلك؟»...
في تلك الليلة، كان السيد هاشم، ينقل الحديث فجأة للسؤال عن الوضع الداخلي. كان واضحاً في عقل الحزب، أن الحرب الواسعة تعني أموراً كثيرة على صعيد نتائجها في لبنان. وهو ما ظهر لاحقاً كسبب كابح للأصوات التي كانت ترتفع مطالبة بالحرب الواسعة...
يومها، أذكر، كيف تحدث السيد هاشم عن المقاومة في غزة، ولا يخفي لحظة واحدة، ليس الإعجاب والتقدير بما يقوم به المقاومون هناك، بل في الصبر الذي يسكن الناس من حول المقاومة. وحيرته تكبر، عندما يفكر، في قدرة العالم على تجاهل ما يحصل.
لكن حديثه الذي يكرره في كل لقاء منذ ما بعد عملية «طوفان الأقصى»، كان مقدمة، لشرح ما يقول إنه أبسط الأمور: «كيف لأحد في هذه الدنيا، أن يطلب منا الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ما يحصل في فلسطين... ومن يفعل ذلك، لا يعرفنا، لكن يفوته أيضاً معرفة هذا العدو».
ثمة كلام كثير حول ظروف استشهاده، ونقاش لا معنى له حول الإجراءات وخلافه، لكنّ الأكيد الذي يخص الرجل، أنه كان في قلب المعركة، مدركاً للمخاطر ومستعداً للأثمان. ويبقى، أنّ الأيام ستكون كفيلة بشرح الكثير من الأمور، لكن واجب كل من يناصر المقاومة، الهدوء قليلاً، والتخلّي عن كل حشرية، وترك هذه المرحلة لإدارتها الجديدة. أما الحقائق حول ما حصل، فلتبقَ هي الأخرى رهن ما تخلص إليه لجان التحقيق والتقييم.