خلدون الشريف -
لم يكن إنزالُ الكسوة الإسرائيلي، يوم الأربعاء الثامن والعشرين من آب الماضي، مجرّدَ عمليَّةٍ ميدانيَّة. فالموقعُ الذي استُهدف، وفقَ معلوماتٍ موثوقة، كان مركزًا أمنيًّا تركيًّا مُستحدَثًا تحت حمايةِ الأمن السوريّ. الرِّسالةُ بدت واضحة: إسرائيل لا تريد لتركيا أن تُرسِّخ حضورَها العسكريَّ والأمنيَّ في قلبِ دمشق.
قبل ذلك بأشهرٍ قليلة، وتحديدًا في نيسان، جرى في باكو اتّفاقٌ لتنظيمِ استبعادِ الاشتباك بين تركيا وإسرائيل (deconfliction)، وتلاه أوّل تواصُلٍ أمنيٍّ سوريٍّ – إسرائيليٍّ برعايةٍ تركيَّةٍ أيضًا. وبعد عمليَّةِ الكسوة، التي دامت ساعتين وأدَّت إلى مقتلِ عددٍ من عناصرِ الأمن السوريّ، نشط تواصُلٌ ثلاثيٌّ أميركيٌّ – إسرائيليٌّ – تركيّ، قدَّمت خلاله تل أبيب تبريرًا أنَّ قوّاتَها نزلت لسحبِ أو تفجيرِ أجهزةِ تجسُّسٍ إلكترونيّة كانت قد وضعتْها في الموقع الذي كان الحرسُ الثوريُّ الإيرانيُّ يستخدمُه. عدمُ سقوطِ ضحايا أتراك سمح بتجديدِ تفاهمِ عدمِ الاشتباك بين تركيا وإسرائيل، ولو بصورةٍ موقتة.
إيران بين الانكفاء والاحتواء
في نظرِ محلّلين أتراك، لم تَعُد إسرائيل تخشى في المنطقة سوى تمدّدِ النُّفوذ التركيّ. أمّا إيران فلم تَعُد تُشكّل الخطرَ نفسَه كما في العقدين الماضيين. محورُ المقاومة تآكل من جذورِه: النِّظامُ السوريُّ تبدَّل، حزبُ الله فقد زعامتَه الكاريزميّة بعد غيابِ السيّد حسن نصرالله، وفقد قيادات كبرى وتعرض لضربات متلاحقة ومؤذية، الدِّفاعاتُ الإيرانيّة تعرَّضت لاختراقاتٍ متكرّرة، ورؤوسٌ مدبّرة كبيرة في الدّاخل الإيرانيّ كانت هدفًا لعمليّاتِ اغتيال.
الإسرائيليّون، بحسبِ رأي المحلّلين الأتراك دائمًا، يعتبرون أنَّ الهزيمة التي مُنيَ بها المحور، من غزّة إلى لبنان فسوريا وإيران، ليست مجرّدَ تراجعٍ ظرفيّ، بل ضربةٌ عميقة ستترك أثرًا طويلَ الأمد على موازينِ القوى. وإيران اليوم أمام خيارين: إمّا أن تقبلَ بالاحتواء وتلعبَ دورًا ثانويًّا ضمن نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ تقوده تركيا والسعوديّة، مع تقديمِ تنازلاتٍ لإسرائيل التي تسعى إلى الهيمنة الكاملة؛ أو أن تواصلَ المواجهة عبر إعادة تشكيلِ أذرعها، وهو خيارٌ يُهدّدُها بعزلةٍ أوسع واستنزافٍ اقتصاديٍّ وبشريٍّ لا طاقةَ لها عليه.
لكن إسرائيل نفسها، رغم سعيها إلى محاصرةِ إيران، لا ترغب في شطبِها نهائيًّا. إبقاءُ طهران عاملَ تهديدٍ محسوب يخدم هدفًا آخر: منع تركيا من الانفرادِ بالملعبِ المشرقيّ. فأنقرة لا تتمدّد في سوريا فحسب، بل تبني شراكاتٍ تمتدّ من المشرق إلى الخليج والقوقاز وأفريقيا وروسيا، إلى وجودِها في صُلبِ الناتو وعلاقتِها المريحة مع الولايات المتّحدة، ما يجعلها المنافسَ الاستراتيجيَّ الأخطر بالنسبة إلى تل أبيب.
السعوديّة واستعادةُ مركز الثِّقل العربيّ
تتحرّك السعوديّة اليوم بثقةٍ لإعادة تثبيت موقعها كركيزةٍ أساسيّة في المشرق. فبعدما رسَّخت حضورَها في اليمن والخليج والعالمين العربيّ والإسلاميّ، تتقدَّم المملكة إلى قلب المعادلة الإقليميّة من بوابتين أساسيتين: سوريا ولبنان.
في سوريا، تحسم الرياض خيارها بدعم النِّظام الجديد وتثبيت أركانه، متحرّكةً على خطَّيْن متوازيَيْن: تنسيقٌ محكم مع تركيا والولايات المتّحدة لتأمين الحماية، وإغلاق الباب أمام عودة إيران إلى الساحة التي هيمنت عليها منذ 2003. وترافق ذلك خطواتٌ اقتصاديّة ولو متواضعة، لكنّها محسوبة وواضحة في مسارها الاستراتيجيّ.
أمّا في لبنان، فتستعيد المملكة موقعَها كمرجعيّةٍ أولى للسنّة، وتتقدَّم لتكون شريكًا فاعلًا في تكوين السلطة من رئاسة الجمهوريّة إلى رئاسة الحكومة، مُمهِّدةً لدورٍ محوريّ في التوازنات المقبلة التي ستُفرزها انتخابات 2026. وبذلك، تعود السعوديّة إلى دورها التاريخيّ كضامنٍ عربيّ، ليس فقط في مواجهة النفوذ الإيرانيّ المتراجع، بل أيضًا في منافسةٍ مباشرة على رسم ملامح المشرق. اتفاق بكين عام 2023 نظّم العلاقة مع طهران، لكنّه لم يؤسِّس لشراكة. أمّا مع أنقرة، فالتكامل ممكن لكنّه يظلُّ مشوبًا بالحذر.
وفي قلبِ هذه المعادلة يقف لبنان، ليس بوصفِه ساحةً جانبيّة، بل كمختبرٍ لأيّ تسويةٍ إقليميّة. فنتائجُ الهزيمة العسكريّة والمعنويّة التي لحقت بالمحور ستتحوّل إلى ورقةِ تفاوضٍ بين القوى الكبرى لرسمِ توازناتِ المشرق لعقدٍ مقبلٍ أو أكثر بالحدّ الأدنى.
لبنان: صياغةٌ تنفيذيّة لحصريّةِ السلاح
هنا تبرز التسويةُ الداخليّة التي حصلت حول تعاطي الحكومة مع خطة قائد الجيش لحصريّةِ السلاح بيد الدولة كمحطةً فارقة. فالخطة التي جرى التوافق عليها بين الرئاسات الثلاثة وقيادة الجيش، نقلت النقاش من ساحةِ السجال السياسيّ إلى مسارٍ تنفيذيٍّ واضح، يستند إلى اتّفاق الطائف والقرارات الدوليّة، ويضع المؤسّسة العسكريّة في موقع المرجع الشرعيّ الوحيد لقرارِ الحرب والسِّلم.
أهميّة هذه الخطوة أنّها نزعت فتيلَ انفجارٍ داخليٍّ محتمل كان يلوح في الأفق، وربطت التنفيذ بقدراتِ الجيش والدّعم الدوليّ، بحيث يُصبح حصرُ السلاح خيارًا لبنانيًّا نابعًا من الداخل، لا يُفرَض بالصدام ولا يُستخدَم كأداةِ ابتزازٍ خارجيّ. كما حمّلت المجتمع الدوليّ مسؤوليّة مباشرة: إذا أراد تطبيقَ القرارات الدوليّة، فعليه تمكينُ الجيش بالعتاد والتمويل.
للمرّة الأولى منذ إقرار حلِّ الميليشيات في عهد الرئيس إلياس الهراوي وحكومة الرئيس عمر كرامي، تحاول الدولة أن تستعيد زمامَ المبادرة في ملفّ السلاح عبر صياغةٍ تنفيذيّة واقعيّة، تُوازن بين مقتضيات السيادة وضمانات السِّلم الأهليّ. نجاحُ هذه الخطة سيعتمد على جدّية المجتمع الدوليّ في دعم الجيش، وعلى قدرة الداخل اللبنانيّ في تحييد الانقسامات الطائفية ويعتمد كذلك على قدرة الدولة على حماية حدوده ومواطنيه عمليًا مع التأكيد أن لإسرائيل أطماعاً مؤكدة بمياه لبنان وأرض لبنان وضرب دور لبنان. وهنا، يُصبح لبنان أمام معادلةٍ جديدة: دولةٌ تسعى لتكريس نفسها كمرجعٍ وحيد، وجيشٌ يُعاد تكليفه بدورٍ توحيديّ، وسلاحٌ يُعاد تعريفُه كمسؤوليّةٍ وطنيّة.
الخاتمة
بين إنزال الكسوة في دمشق وما حمله من رسائل، والمتغيرات الحاصلة كافة، تقف إسرائيل بقلق، ويمضي لبنان في قلب العاصفة. نحن أمام نظامٍ مشرقيٍّ جديد يتشكّل على أنقاض حربٍ قاسية، وصورته لم تكتمل بعد.
شتاء 2025 سيكون مفصليًّا: إمّا تسوية كبرى تُعيد رسم خرائط النفوذ وتمنح المنطقة استقرارًا نسبيًّا، وإمّا انزلاقٌ إلى فوضى أطول تُبقي المشرق في مهبِّ الاضطراب. لكنَّ المؤشِّرات تُرجِّح أن الحاجة الجماعيّة إلى التسوية باتت أقوى من شهية المغامرة اللهم إلا شهية نتنياهو وفريقه الممتد إلى شعبية يعتد بها في الكيان.
ولبنان، كما في كلِّ مرّة، ليس تفصيلًا. إنّه قلب المعادلة ومختبرُها، حيث تُقاس قدرة الدولة على احتكار السلاح، وتُختبر حدودُ السِّلم الأهليّ. في المشرق الجديد، إمّا أن ينجح لبنان في تثبيت نفسه كدولةٍ ذات سيادةٍ ومرجعيّةٍ واحدة، أو أن يبقى مرآةً هشّة لصراعات الآخرين، تمامًا كما بقيت غزّة مرآةً دامية لكلفة العجز المطلق للإقليم والعالمين العربي والاسلامي وعجز الدول الغربية التي ادعت تصدير الأخلاق والإنسانية والمبادئ عن ردع إسرائيل من التوحش والتغول.
المرحلة تطلب تسوية داخلية يستعيد فيها المواطن اللبناني انفاسه لإعادة بناء ما تهدم وإعادة بناء الاقتصاد وتحويل بلاده نموذجاً ناجحاً يناقض النموذج الاسرائيلي القائم على طائفية الدولة وإجرامها وتوغلها في محاولة لإحكام السيطرة على المنطقة برمتها. التقاط الأنفاس ضرورة والاستقرار في لبنان واجب.