أنطوان الأسمر-
يدخل لبنان أسبوعاً يُشبه غرفة مفاوضات مفتوحة على احتمالات متناقضة، حيث تتقاطع ٣ مسارات متزامنة: زيارة الموفدين الأميركيين توم براك ومورغان أورتاغوس، التصويت المرتقب في مجلس الأمن في 25 آب على تجديد ولاية اليونيفيل، والعمل الجاري داخل المؤسسة العسكرية لوضع خطة سحب سلاح حزب الله تنفيذاً لقرار الحكومة. هذا التزامن لا يكتفي بضغط المهل الزمنية، بل يفرض على السلطة إدارة دقيقة لتوازنات داخلية وإقليمية تتبدّل بسرعة تحت وقع التصعيد الإسرائيلي.
١-في المسار الأممي، تبدو معركة التجديد لليونيفيل اختباراً مبكراً لنية الأطراف المعنية بإبقاء الهدوء الهش عند الحدود الجنوبية. فالإشارات التي التقطتها بيروت من الزيارة الأخيرة للموفدين الأميركيين لم تحمل حسمًا واضحًا من واشنطن، بالتوازي مع ضغطٍ إسرائيلي لإعادة تعريف مهمة القوة الدولية أو تقليصها وصولاً إلى إنهائها. ترْكُ الأمر في المنطقة الرمادية يمنح تل أبيب ورقة ضغط إضافية، لكنه يضاعف أيضاً كلفة أي انزلاق أمني قد يُفجّر الحدود ويحرج العواصم الداعمة للاستقرار.
٢-أما في المسار الداخلي، فالمعادلة المعلنة باتت واضحة: حصرية السلاح بيد الدولة هدف نهائي لا رجعة عنه. لكن طريق الوصول إليه محفوف بحساسيات حقيقية وواقعية، بعضها ميداني وبعضها سياسي ـ مجتمعي. من هنا يبرز حديث المؤسسة العسكرية عن تمديد مهلة تسليم خطتها مع تحصينها بأكبر قدر من التوافق، ليس تردداً بقدر ما هو محاولة لبناء أوسع احتضان حولها وتأمين غطاء دولي صلب، يضمن التزامات متبادلة على سوريا وإسرائيل بكل ما يترتب عليهما من مسؤوليات في ضبط الحدود ومنع الخروق وتفكيك أسباب الاحتكاك.
وتحت هذا السقف، تكتسب اللقاءات المغلقة دلالات إضافية، ومنها الاجتماع الذي جمع في باريس براك وأورتاغوس بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبحث ترتيبات أمنية حدودية. الإشارة هنا ليست تقنية فحسب. إنها تعكس أن الملف اللبناني جزء من مروحة أوسع تشمل الجبهة السورية – الإسرائيلية. هذا التشابك قد يساعد على صفقة شاملة تُلازم المسارات، لكنه قد يُعقّد ولادة حل لبناني صرف، إذ يربط تقدّم الداخل بإيقاع تفاهمات إقليمية متقلّبة.
في هذا السياق، يسعى براك إلى تبديد هواجس الثنائية الشيعية، وتحديداً رئيس مجلس النواب نبيه بري، وإلى طمأنة بقية القوى السياسية حيال نيات تل أبيب وضرورة التزامها. إلا أن الانطباع الذي تسرّب عن لقاء بري لم يكن مريحاً، مما يوحي بأن لغة الضمانات لم ترقَ بعد إلى مستوى مطمئن يغطّي التحوّل الكبير المطلوب. يضاعف ذلك منسوب الشك لدى حزب الله الذي يتعامل مع ملف السلاح كخط تماس هويّاتي، ولا يتردد في التلويح بالحرب الأهلية كتحذير من أي مقاربة قسرية أو أحادية.
رغم ذلك، تفتح المعطيات المتوافرة نافذة لمرونة أميركية إجرائية، وخصوصاً في المهل الزمنية، بما يتيح اختبار مقاربة الخطوة مقابل خطوة التي يطالب بها لبنان منذ بدء النقاشات. جوهر هذه المقاربة ليس سياسياً فحسب، بل تقني أيضاً: خطوات لبنانية قابلة للتحقق والمراقبة ـ مثل سحب السلاح من جنوب الليطاني وتثبيت وقف إطلاق النار ـ تقابلها خطوات إسرائيلية متزامنة وموثّقة، من وقف الخروق البرية والجوية والانسجام مع موجبات اتفاق وقف إطلاق النار، إلى ترتيبات عملية تمنع الاحتكاك وتسهّل عمل اليونيفيل.
نجاعة هذه الصيغة مرهونة بقدرة الوسطاء على تحويلها إلى سُلّم تنفيذ واضح، بمراحل وجداول زمنية وآليات تحقق محايدة. هنا تتقدّم جملة أسئلة: من يضمن التسلسل؟ ما هي إجراءات الرد في حال الإخلال؟ وما موقع الخطة التي يضعها الجيش اللبناني ضمن هذا السُلّم؟ الإجابة الواقعية تفترض حزمة متكاملة لا تقتصر على الأمن الصرف، بل تشمل اقتصاداً وسياسة واتصالات عامة، لأن أي فراغ اجتماعي – اقتصادي سيُضعف شرعية التنفيذ ويُسهّل على المتضررين تعبئة الشارع ضدها.
في المقابل، لا يمكن تجاهل دينامية التصعيد الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة، والتي توظَّف غالباً كتحسين شروط تفاوضية.
عند هذا الحدّ، يصبح ضغط الوقت سلاحاً ذا حدّين: إمّا يسرّع بلورة تسوية متوازنة، وإما يدفع نحو جولات نارية تعيد الجميع إلى النقطة صفر.
ثمة 3 سيناريوات:
أ-أفضلها تثبيت وقف إطلاق النار وتفعيل اليونيفيل بصلاحيات واضحة، مع بدء تطبيق متدرّج لخطة الجيش ضمن مظلّة تفاهمات حدودية أوسع.
ب-وأسوأها انهيار مسار التجديد للأمم المتحدة وتعنّت إسرائيلي يوازيه تشدد داخلي، مما يحرّك سباقاً في الخطوط الأمامية ويفتح الباب أمام حوادث كبرى أو خطأ قاتل.
ج-أما الأكثر ترجيحاً على المدى القريب فهو مزيج من التبريد التكتيكي والاختبار المتبادل، ريثما تتبلور موازين القوى الإقليمية.
يعني كل ذلك أن لبنان عالق بين مهلةٍ أممية داهمة، ومسار وساطة أميركي لم يكتمل بعد، وخطة عسكرية تحتاج إلى توافق وغطاء. ويتطلب تحويل هذا الثالوث الضاغط إلى فرصة توافر ٣ شروط: موقف لبناني موحّد يُحسن التفاوض ولا يستهين بالهواجس، خطة واقعية قابلة للتنفيذ والمراقبة، وضمانات خارجية صلبة تُقنع تل أبيب بأن كلفة الالتزام أدنى من كلفة التعطيل. التفاؤل الحذر مشروع، لكن الاختبار الحقيقي يبدأ من الإجابة التي سيحملها الموفد الأميركي: هل تقبل إسرائيل معادلة خطوة مقابل خطوة… أم تعود المنطقة إلى لعبة الوقت والنار؟