حبيب البستاني*
بالرغم من تنوع الأحداث وأهميتها وخطورتها في آن معاً، فإن حدثاً واحداً طغى على ما عداه وحظي باهتمام ليس فقط كل اللبنانيين، إنما كل المتكلمين بلغة الضاد لا سيما منهم الفنانين والمفكرين والشعراء والمثقفين في كل أنحاء دنيا العرب، وهكذا غاب اهتمام الناس عن كل ما يتهدد لبنان من أخطار وتهديدات، وأصبح حديث باراك وتهديداته مضافاً إليها تهديدات نتنياهو مجرد خبر يقع في المرتبة الأخيرة من يوميات اللبناني. حدث جلل خطف الأضواء وأجبر كل محطات التلفزة والإعلام المرئي والمسموع وحتى مواقع التواصل الاجتماعي بدون استثناء بوضعه على صدر صفحاتها وبالخط العريض، توقف قلب عملاق الفن والشعر والمسرح، توقف قلب المبدع زياد فتوقفت معه كل الأحداث، وأضحى كل رئيس تحرير وكاتب وصحفي ومفكر اسير هذه الفاجعة، حتى أن أولئك الكتبة الذين يقبضون على الساعة هالهم الخبر وتولدت لديهم عقدة النقص إن لم يقوموا بما يتوجب عليهم القيام به، وفجأة أصبحت كل أعمدة الصحف والمجلات حتى السياسية منها ملعباً للاعب واحد أوحد وحدث واحد هو غياب زياد الرحباني. غاب زياد فغاب كل شيء وغابت الأخبار والتحليلات، وحتى أن أولئك الذين كان لا هم لهم سوى نقل التهديدات للبنانيين عن لسان هذا المسؤول أو ذاك، وهم في اعتقادهم أن "ناقل الكفر ليس بكافر"، توقفوا عن ممارسة ألاعيبهم القذرة، فالناس أصبحت وبين ليلة وضحاها تنظر إليهم بمنظار زياد وفكر زياد ووطنية زياد، وأصبحوا عراة حتى من ورقة التين، غريب كيف عرَاهم زياد في حياته وهو لم يكف عن ذلك حتى في رحيله.
زياد لا يشبه إلا زياد
بالرغم إلى تحدره من عائلة من الفنانين العباقرة وبالرغم من انتمائه إلى واحدة من أهم العائلات الفنية والشعرية، عنيت بهم فيروز والأخوين رحباني، فإن زياد العبقري وإن كان عبقري المنشا فإنه كان زياد، فلم يكن بحاجة إلى إضافة شيء على إسمه وإن كان إسم عائلة الرحباني يشرف أي كان من الانتماء إليها، يكفي أن تقول زياد ليصار إلى ربط اسمه بعالم العباقرة، فيجتمع الأخوين رحباني وفيروز في شخصه ولكن لكل منهم شخصيته وفنه وأسلوبه وهالته. وإذا كان العامل البيولوجي والجيني قد توارثه زياد، فإن عامل الإبداع هو من استنباط زياد وحده، فبعد أن خلد الأخوين رحباني وفيروز مفهوم اللبنان والوطن حتى بتنا نقول "وطن فيروز والأخوين رحباني" هذا الوطن المميز الذي أوجده الرحابنة لا وجود له في دنيا الواقع، فالناس تتمثل به ولكن دون إمكانية الوصول إليه، وهذا اللبنان يشبه الحلم الذي يشخص إليه كل اللبنانيين، علهم يحققونه وإن لم يكن في الواقع ففي الأحلام. أما زياد الذي تربى على هذا الحلم ونشأ عليه وأصبح يشكل حلمه كما حلم كل الناس، هاله كبر لبنان وعظمته ولكنه سرعان ما اكتشف شيئاً لا يتضمنه هذا اللبنان وهو "اللبناني". فالرحابنة وصفوا لبنان وتغنوا به ولكنه فاتهم "اللبناني" فجاء زياد ليكمل الصورة، فوصف اللبناني بابهى صوره وبأصدق مشاعره، وصف اللبناني بفقره وحبه وعمله وشغفه للحياة، وصفه بنضاله بيومياته حتى تلك اليوميات التعيسة أو الروتينية لا فرق، فهو لم يسعَ في كتاباته ومسرحياته إلى تجميل صورة اللبناني بل تركه يعيش في إنسانيته وذلك كأي إنسان آخر، فهو ليس بالمستبد ولا بالظالم بل إنه وفي اكثر الأوقات يعيش مظلوماً، وهو في سعيه وعمله ونضاله بروليتاري الهوى، بالكاد يستطيع من الاكتفاء، إنه اللبناني الذي وصفه زياد وغناه زياد والذي يشبه كل اللبنانيين. ومع كل المعاناة والفقر لم يغفل زياد عن وصف بهجة وسرور هذا الإنسان، وحتى أنه كان في حبه للمرأة راضياً مرضياً، فلم يكن الحسد ولا حتى الخيانة سوى مشاعر من عدة الشغل، وهكذا رسم زياد "نزل السرور" الذي شكل الوطن بالنسبة إليه، ولم يكن "فيلم أميركي طويل" سوى استعادة لواقع ورسم لسوريالية أقرب ما تكون إلى الحقيقة، وهكذا كان زياد استشرافياً، يرى المستقبل انطلاقاً من الحاضر الذي يعيش. ربما كان زياد سابقاً لزمانه وهو كذلك بالتأكيد وهو المتنقل بين التخت الشرقي وموسيقى الجاز والكلاسيك والأوبرا وصولاً إلى الفن اللاتيني. ومن قال أن زياد لم يكن مؤمناً، فبالرغم من انتمائه للفكر الماركسي فإن الشيوعية بقيت بالنسبة إليه أسلوب حياة أقرب إلى العدالة الاجتماعية التي شكلت بالنسبة إليه هاجسه الأكبر، فوضع أجمل التراتيل الكنسية، ولولا ورقة النعي التي تحدد مذهبه لاعتقده الجميع مارونياً لكثرة ما أحب لبنان، وكان ما أبدع به زياد هو طريقته في الحب "بحبك بلا ولا شي". وهو يعبر إلى سفر الخالدين، أبى زياد إلا وأن يجبر نعم يجبر كل الإذاعات والتلفزيونات على إتحافنا بأجمل ما كتب ولحن، زياد سنستمع إليك اليوم وغداً وفي كل يوم وسنحبك "بلا ولا شي".
كاتب سياسي*