عمر قدور - المدن -
بعد أربعة شهور من توقيع الإعلان الدستوري السوري، تراكمت التساؤلات عمّا إذا كانت السلطة ملتزمة به حقاً، وعمّا إذا كانت القرارات والمراسيم الصادرة متوافقة مع المبادئ والمواد الواردة في الإعلان. التساؤلات والتحفظات بدأ الجهر بها، على وسائل التواصل الاجتماعي، من أشخاص كانوا إلى وقت قريب يتحاشون توجيه اللوم للسلطة الجديدة، بل من أشخاص كانت لهم لقاءات مع مستويات عليا منها، ما أوحى حينها بأنهم مقرَّبون من أوساط القرار.
يُذكر أن السيد أحمد الشرع، بوصفه الرئيس في المرحلة الانتقالية، أصدر الإعلان الدستوري في الثالث عشر من آذار الفائت، وذُكرت في مقدمة الإعلان مخرجات ما سُمّي مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في الخامس والعشرين من شباط. مؤتمر الحوار ثم الإعلان الدستوري نالا في ذلك الوقت انتقادات، بعضها يتعلق بغياب تمثيل حقيقي للسوريين في المؤتمر، وبعضها الآخر يتعلق بالكفاءات التي أشرفت على الاثنين، بما فيها انتقاد بعض الأسماء التي يُفترض أنها مشاركة في إعداد الإعلان.
بصرف النظر عن الاعتراضات، صار الإعلان واقعاً، وليس من سبيل لتعديله (بحسب نص الإعلان نفسه) إلا عبر "مجلس الشعب"، الذي لم يُعيَّن بعد. في الأصل، كانت تسمية مجلس الشعب غير مناسبة إطلاقاً، فالمجلس لن يُنتخب بانتخابات شعبية عامة، وهو تالياً لن يأتي ولو شكلياً عبر آليات اقتراع شعبية. التسمية الأقرب إلى الواقع هي "المجلس التشريعي"، وفي هذه الحالة تتقدم إلى الواجهة الكفاءة الحقوقية، إلى جانب تمثيل أوسع طيف مجتمعي. وفي هذه الحالة أيضاً تحدث قطيعة مع إرث الأسد الذي أطلق التسمية ذاتها بديلاً عن المجلس النيابي.
مثلاً، واحد من القرارات الصادرة عن وزير العدل مؤخراً نصَّ على تشكيل لجنة لإعادة النظر في "قانون" تأجير المحلات التجارية. ورغم أن القرار يبدو عادياً للوهلة الأولى، إلا أنه يتجاوز صلاحيات الوزير، فتعديل قانون لا يجوز إلا بقانون عن الجهة صاحبة الصلاحية، وهي هنا مجلس الشعب الذي تأخر تعيينه. جدير بالذكر أن وزارة الأوقاف بدأت أيضاً فتح ملف الأملاك الوقفية المؤجّرة، وهي ملفات يجب أن تُفتح حقاً لما يشوبها من فساد وإهدار أموال عامة. إلا أن ملفّها (مع قانون تأجير المحلات التجارية)، يجب أن يُفتحا بموجب قوانين جديدة مدروسة من الجهة المخوَّلة، وعلى نحو يراعي الوضع الاقتصادي الاستثنائي بتدهوره، وأيضاً بعواقبه على السلم الأهلي. وهذه المراعاة يُفترض أنها نابعة من روحية وبعض ما ورد في الإعلان الدستوري الذي أعطى الأولوية لما هو اجتماعي، حيث نصَّت المادة 11 على: "يهدف الاقتصاد الوطني إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الشاملة وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة للمواطنين".
الرئيس نفسه أصدر العديد من المراسيم التي تتجاوز صلاحياته المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، وهي صلاحيات واسعة أصلاً. ومن ذلك إصدار مراسيم يعدّل بها قوانين سابقة، ما يكرر الخطأ المشار إليه في قرار الوزير، فليس من صلاحية الرئيس الانتقالي تعديل القوانين. التعديل وسنّ القوانين الجديدة هو من صلاحيات مجلس الشعب. مرة أخرى، المجلس الذي لم يُعيَّن بعد.
من المراسيم الرئاسية الأخيرة ذلك الذي تم به تعديل قانون الاستثمار، ومرسوم إحداث "الصندوق السيادي" الذي يتبع مباشرة للرئاسة. فالحالة الأولى التي تتجاوز صلاحيات الرئاسة تكتمل بالثانية التي تُلحِق جانباً مهماً من الاقتصاد، عبر الصندوق السيادي، بالرئاسة مباشرة وبمعزل عن آليات الرقابة. نشير هنا إلى عدم وجود آليات رقابية في الإعلان الدستوري على عمل الرئاسة، وحتى في هذه الحالة التي يتم فيها تجاوز صلاحياتها لا توجد جهة تتولى البتّ في حدود الصلاحيات.
إن إقرار القوانين في مجلس الشعب، بصرف النظر عن تحفظّنا على التسمية وآليات التعيين، فيه فرصة على الأقل للتعرّف على مشاريع القوانين، وعلى النقاشات التي تجري قبل إقرارها فتُظهر ثغراتها. الحديث هو عن آلية فيها قدر من المشاركة والشفافية، حتى إذا كان المجلس معيَّناً على نحو يوافق هوى الرئاسة. أما صدور المراسيم، وتعديل القوانين، عن الأخيرة فهو يحدث عبر آليات غامضة لا يُعرف عنها شيء.
والغموض سيؤثر سلباً على اجتذاب استثمارات يُفترض أن المراسيم تصدر لأجلها، لأن الغموض بطبيعته ينافي الفرص الاقتصادية المتكافئة في مناخ من الشفافية. ويتعزز ذلك خصوصاً مع سعي الرئاسة إلى إلحاق العديد من الملفات والقطاعات بها، وواحد من الأمثلة تحويل مؤسسة الطيران إلى هيئة عامة مُلحَقة بالرئاسة. أما إعلانات النوايا عن مشاريع ضخمة، في القصر الرئاسي أيضاً وبأرقام ضخمة، فسوف تزيد الشكوك حول الوجهة الاقتصادية، طالما أن ذلك يحدث خارج الآليات المعهودة لجهة الإعلان عن مشاريع والمفاضلة بين المتقدّمين.
ثمة ما يُقال على استحياء، مفاده عدم وجود مستشارين قانونيين يدرسون القرارات الوزارية أو المراسيم الرئاسية قبل صدورها. وهذا مستغرب لكثرة الخبرات القانونية في سوريا، ولكثرة القانونيين المستعدين لتقديم المشورة للسلطة. ويتفاقم الاستغراب من غياب المستوى الحقوقي مع نشاط مستشار الرئاسة للشؤون الدينية، والذي (على سبيل المثال) ظهر مؤخراً ليعطي توجيهاته لرئاسة جامعة حلب، وشوهد من قبل في مقابلات تُجرى لاختيار مرشّحين لمناصب عليا! ثمة في هذا ما هو أبعد من تلك التخوفات من أسلمة المؤسسات، وهو النظر إلى مستشار الشؤون الدينية كمبعوث رئاسي، بما يعنيه حضوره من حضور الرئاسة وتدخّلها في الكثير من التفاصيل المؤسساتية، ما يعيد إلى الأذهان تمركز السلطة المفرط السابق، وبما يخالف روحية المرحلة الانتقالية التي يُفترض أنها انتقال إلى نظام أكثر مأسسةً وتداولاً للسلطة.
وكانت التكهنات قد ثارت حول زيارة الشرع الأخيرة إلى الإمارات، ربطاً بما يُشاع عن اقتراب التطبيع مع إسرائيل. وتغذّى بعض التكهنات من سفره إلى الخارج، الذي يُفترض ألا يكون روتينياً بينما يكافح رجال الإطفاء لإنقاذ البلد من كارثة كبرى ناجمة عن الحرائق الحراجية. أيضاً، أقلّه بسبب الغموض، لا تبدو السلطة حريصة على الالتزام بالمادة الأولى التي تنص على: "الجمهورية العربية السورية دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، وهي وحدة جغرافية وسياسية لا تتجزأ، ولا يجوز التخلي عن أي جزء منها". فالسيناريوهات التي تروّج عن نتائج لمفاوضات سرية لا تتوافق مع هذا النص، وعلى صعيد ما هو ظاهر هناك صمت إزاء التوغلات الإسرائيلية التي لا تنقطع داخل الأراضي السورية، بعدما خرقت القوات الإسرائيلية على نحو مستدام خط الهدنة.
في الواقع، لم تكن مشكلة السوريين، قبل الثورة، مع نصوص الدستور أو القوانين، باستثناء قلة من المواد. بل كان هناك في تلك الفترة كثر يتمنون تطبيق نصوص الدستور والقوانين، لأن الشكوى الأساسية كانت من عدم الالتزام بالقوانين، فضلاً عن الشكوى من المحاكم الاستثنائية. عدم التزام السلطة، أية سلطة، بالدستور والقانون هو ما يفتح على احتمالات كارثية، ويزاد مقدار الاستهانة بالقانون عندما تخرق السلطة القانون الذي ارتضته لنفسها، إذ يعني أنها فوق القانون بالمطلق. هذه وصفة تعني، في الحد الأدنى، أن سوريا لم تصل بعد إلى مرحلة انتقالية!