الديار: عبد المنعم عيسى-
في اليوم الثالث للهجوم الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس في حي الدويلعة جنوب شرقي دمشق، كان جنوبي غرب دمشق على موعد شبيه بالأول. فالمشتركات بين الاثنين كثيرة من حيث أنهما نتاج لمناخات راحت تفعل فعلها، في نسج وتراكيب باتت شديدة الهشاشة، بدرجة لم يعد «ظهرها» قادرا على حمولة «شعرة» تضاف إلى حمولاته السابقة.
وعلى الرغم من تباين النتائج التي تقول إن الأول كان «دمويا» في حين لم يكن الثاني كذلك، فإن المفاعيل تكاد تكون واحدة، أو تصب في «الجعاب» عينها.
يوم الأربعاء 25 حزيران الجاري، كانت مدرسة «شارل ديغول»، التي افتتحها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عام 2008 في منطقة المزة بدمشق، تقيم احتفالها السنوي التقليدي لطلاب المرحلة الابتدائية الذي تختتم به عامها الدراسي.
والاحتفال غالبا ما يكون ترفيهيا، وتتخلله الموسيقى التي ترافق كل فِقراته، بدءا من تكريم الطلاب المتفوقين وصولا إلى اختتامه.
وفي الغضون تعرض الحفل لما «لم يكن يخطر ببال أحد»، وفقا للتوصيف الذي استخدمته إحدى المعلمات، ونشرته إحدى الصفحات العائدة لذوي الطلاب ممن حضروا ذلك الاحتفال.
وثق «المرصد السوري لحقوق الإنسان» ما جرى على النحو الاتي: «بحسب المعلومات تحول الاحتفال لحالة من الرعب والفوضى، بعدما اقتحم المسؤول عن حاجز الأمن العام القربب من المشفى العسكري( 601 سابقا) المدعو (الشيخ أبو عبد القادر) بوابة المدرسة، مطالبا بخفض صوت الموسيقى، قبل أن يطلق تهديدات مباشرة باستخدام السلاح، بينها التهديد برمي القنابل داخل المدرسة».
وفي التفاصيل ذكرت صفحات لناشطين قالوا أن معلوماتهم جاءت بالتواصل مع بعض أعضاء الكادر التدريسي، وبعض الأهالي من الحضور، أن «حارس المدرسة استطاع منع الشيخ من الدخول إليها»، وعندما حاول أعضاء مجلس الإدارة احتواء الموقف مشيرين إلى أنه «ليس بالإمكان إلغاء الموسيقى لأن الاحتفال ترفيهي أساسا، وهو موجه الى طلاب بمرحلة عمرية صغيرة»، رد «الشيخ» بالقول «هذه المظاهر هي فوضى موروثة من النظام السابق»، وهدد قائلا «سأدخل الدوشكا»، ثم راح يطلق شتائم من شتى الأنواع. ومع استمرار التصعيد، وفقا لتلك الصفحات التي تقاطعت معلوماتها بشكل كبير، فإن خطاب الإدارة تركز على إن «المدرسة تعد أرضا فرنسية».
والجدير ذكره هنا، إن انشاء المدرسة المذكورة كان قد جاء في السياق الذي أنشىء على أساسه معهد «اللاييك» عام 1929 وسط دمشق، وكلاهما يقر بالسيادة الفرنسية على الأرض التي يقومان عليها، لكن الشيخ رد بتوجيه شتائم للسفارة الفرنسية وللرئيس الفرنسي. عندئذ لم تجد الإدارة الا طلب العون من مفرزة الحماية الأمنية للسفارة، التي سارعت الى تلبية الطلب، لتبدأ نيران التصعيد بالخبو، لكن «الشيخ» الذي انسحب بعدها، قام بمحاولة التشويش، وممارسة الضغط النفسي على الحفل والحضور، فقام بتشغيل آيات قرآنية عبر مكبرات الصوت الموجودة على الحاجز.
في التركيبة السورية الراهنة، يبدو أن الرواية حتى الآن تطول، فحسب «سطحا» واحدا هو «سطح القواعد»، الذي يتهمه العديد من الناشطين المقربين من السلطة بعدم «تفهم» أوامر القيادة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسائل «شرعية»، وبالانتقال إلى «السطح» الآخر، القيادي، أكدت صفحات مقربة من إدارة المدرسة أنها أعلمت بكتاب مطول وزارة التربية السورية بدقائق وتفاصيل ما جرى، إلا أن رد الوزارة جاء على نحو مختصر أن «هذا خارج نطاق مسؤولياتنا». ولربما يمكن تأكيد هذا الأمر قياسا لعدم صدور بيان رسمي عن السلطات بشأن الحادثة، بالرغم من مرور أربعة أيام عليها، وبالرغم من أن السفارة الفرنسية بدمشق كانت قد أبلغت وزارة الخارجية بالحادثة، محذرة من «خطورة التهديد الذي تمثله»، وفقا لرواية «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
يذكر أن مدرسة «شارل ديغول» كانت من بين المدارس القليلة التي استمرت في فتح أبوابها، رغم قرار الحكومة الفرنسية في شهر تشرين الثاني 2011 والقاضي بتعليق علاقاتها مع النظام السابق، وللأمر حساباته، وبرغم تمدد النار إليها العام 2013 عندما تساقطت قذائف الهاون على صفوف التلاميذ وهم فيها. وهذا يؤكد، بعيدًا عن كل الحسابات، أنها صاحبة رسالة تقوم أساسا على محاولة بناء «جسر» عبور للسوريين، للانتقال من ضفاف مغرقة في المحلية وخصوصياتها، إلى أخرى تأخذ بعين الاعتبار أن ثمة عالما آخر، وهو موجود، وأموره تهمنا بمفاعيل لا تنتهي، لعل أبرزها التقدم الذي حققه وكذا القيم، الذي راحت مجتمعاته تتبناها على وقع الفعل الأول بالضرورة.
ولا ضير هنا في النظرة التي يتبناها العديدون تجاه تلك المعاهد أو المدارس، والتي يقولون إنها تندرج تحت إطار «القوة الناعمة» التي تستخدمها الدول المتقدمة، بغرض خلق مناخات داعمة لسياساتها داخل المجتمعات المستهدفة، خصوصا إذا كنا عاجزين عن تقديم بدائل، والمؤكد هو أن حالنا كذلك هو اليوم.
ثم بحسابات المصالح، ألم تشكل باريس - ماكرون الباب الذي ولجت منه سورية ما بعد الأسد، إلى مطارح وساحات الغرب الواسعة ؟ ألم تكن الخطوات السورية الأولى نحو فرنسا بعد استقبال الشرع بالإليزيه 7 أيار الماضي؟
قد يختصر المشهد بما قالته إحدى المعلمات في اتصال مع الديار تحفظت فيه بشدة، وبعد إصرار، قالت «حقيقة لا أفهم ماذا يحصل، لكني أرى أن البعض يريد إخراج سورية من هذا الكوكب».