عمر قدور -
ليس بالإخفاق الأمني الاستثنائي أن يتسلل إرهابي إلى كنيسة، ليقتل ما يزيد عن عشرين شخصاً ويتسبب بإصابة العشرات، بعدما أطلق النار ثم فجّر نفسه. من هذه الزاوية، تفجير كنيسة مار إلياس، في الدويلعة-دمشق، فيه فشل أمني، لكنه قد يحدث في أي بلد آخر، حيث يستحيل سدّ الثغرات الأمنية كافة.
فشل السلطات السورية ليس ناجماً عن ثغرة أمنية، فالمشكلة الأكبر هي وجود فلتان أمني على نطاق واسع. جزء منه يعود إلى طبيعة المرحلة التي تلت سقوط الأسد، وفتح أبواب السجون التي خرج منها المجرمون مثلما خرج معتقلو الرأي. فضلاً عن الأسباب الاقتصادية لازدهار الجريمة والجريمة المنظّمة وصولاً إلى الإرهاب، إذ دفع انسداد الأفق المعيشي عدداً ضخماً من الشبان إلى الانخراط في تنظيمات تؤمن لهم سبل العيش، ثم كان من السهل غسيل العقول أيديولوجياً.
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت يومياً على الإعلام أو السوشيال ميديا حوادث تشير إلى الفلتان الأمني، وما يظهر هو دائماً أقل بكثير مما هو موجود. ومع ازدياد الحوادث زادت أيضاً الأخبار عن انتهاكات تقوم بها عناصر أمنية هنا وهناك، ومنها على نحو خاص تدخّل عناصر في بارات تقدّم الكحول، أو تعرّضهم لشبّان يلبسون الشورت.. إلخ. حوادث لا يمكن النظر غليها كتصرفات فردية بعد تكرارها بلا معاقبة، وبعدما أصدر وزير السياحة قراراً يحدد فيه لباس السباحة المسموح به على الشواطئ العامة، بما يُفهم منه حق تدخُّل السلطة فيما يلبس الناس.
ثمة بلد خارج من صراع دموي منهك وحالة انقسام وفوضى، وبدل الانصراف كلياً إلى معالجة الملف الأمني تُهدر الطاقات في مراقبة وتقييد الحريات الفردية. هذه ليست وصفة جيدة، ولا توحي بجدية السلطة في معالجة واحد من أخطر الملفات. جدير بالذكر أن السوريين لم يشهدوا في العهد الجديد أي عقاب ناله مَن يرتكبون الجرائم أو الانتهاكات، والسلطة وأنصارها لم يعترفوا بالوضع الأمني الحرج، لتُبنى على الاعتراف توجهاتٌ واضحة نحو المعالجة؛ توجهات صريحة معلنة توحي بالثقة للعموم. أيضاً تقتضي الواقعية الاعتراف بأن المنظومة الأمنية الحالية لم تهبط فجأة على السوريين من كوكب آخر، وعناصرها بمعظمهم من أبناء العسكرة التي لها سجل سابق من الانتهاكات، والنقلة إلى منظومة أمنية محترفة جديرة بالثقة تحتاج وضوحاً وحزماً على هذا الصعيد.
إعلامياً، يجوز الحديث عن فشل كبير، فوسائل الإعلام الرسمية تعاطت مع الضحايا بمنطق تمييزي سرعان ما كشفه نشطاء على السوشيال ميديا. من ذلك أن الإعلام الذي سبق أن وصف قتلى تفجير إرهابي في منبج بالشهداء، هو نفسه الذي وصف قتلى تفجير الكنيسة بالضحايا. بيان وزارة الخارجية الخاص بتفجير الكنيسة لم يترحم على ضحايا، وأدان العمل بصياغة لغوية تبدو فيها الإدانة كأنها تأتي من جهة غير سوريّة، حتى أنه يتحدث عن الطائفة المسيحية، لا الديانة المسيحية ولا عن مذهب منها بعينه.
الطامة الكبرى هي في ظهور مذيع على الإخبارية السورية يضحك، هو وضيوفه، بملء أشداقهم أثناء تغطية حدث الانفجار. واحد من ضيوف المذيع قال إن التفجير هو لمعاقبة المسيحيين على رفضهم الانخراط في حلف الأقليات المناوئ للسلطة الجديدة، وكان من الأفضل لو لم يتوقف المذيع عند هذه النقطة، خصوصاً لأنه بدا موافقاً لا معترضاً أو لديه وجهة نظر أخرى. المقصود بالكلام هو وجود حلف بين الأكراد والعلويين والدروز، رفضَ المسيحيون الانضمام إليه فعوقبوا بتفجير الكنيسة. أي أن داعش يخدم حلف الأقليات أيضاً، ولو على سبيل التقاء المصالح!
قد يُقال إن نقاش هذه المسائل على التلفزيون الرسمي يُحسب له، لأنه يقطع مع الإعلام السابق الذي كان يُمنع فيه نقاش من هذا القبيل. لكن الأمر، كما نعلم، ليس على هذه الشاكلة، فالإعلام الرسمي لا يمنح حصصاً متكافئة لمختلف الآراء، بما فيها أولئك المحسوبين على حلف الأقليات. وهكذا يظهر كأنما يروّج، من طرف واحد مهيمن، لمقولة حلف الأقليات، وهي بضاعة إعلامية غير جديدة، والأهم أنها بعد مجازر الساحل وما تلاها في جرمانا وصحنايا أصبحت بمثابة خطاب تحريضي يمسّ بالسلم الأهلي. وبالتأكيد لا نعني بتكافؤ الفرص أمام الآراء توزيعَها بمنطق المحاصصة، فقناة الإخبارية قدّمت واحداً من ضيوفها لمناسبة التفجير بوصفه ناشطاً مسيحياً، ولم تكن زلة لسان، وهو ليس ناشطاً دينياً ليوصف هكذا.
السلوك المتوقَّع في مثل هذه الحالات أن يُهرع وزير الداخلية إلى مكان التفجير، وهو ما لم يحدث، فذهبت إلى هناك وزيرة الشؤون الاجتماعية التي لا يُنظر إليها كجزء من الكتلة الصلبة للسلطة. أيضاً، كان من المستحسن على الأقل أن يظهر أحد رموز السلطة الكبار على شاشة التلفزيون، في المساء نفسه، ليترحّم على الضحايا ويقدّم التعازي لأوليائهم، وهو ما لم يحدث.
للتذكير، عندما حدثت مجازر الساحل التي أقرّت السلطة بها وشكّلت لجنة للتحقيق فيها، لم يظهر وقتها مسؤول على مستوى رفيع، ليقدِّم خطاباً يُبدي فيه تأثّر السلطة بمقتل عدد من السوريين. بالأحرى، يمكن القول إن هذه الحساسية مُفتقدة كلياً، فكان يمكن (لو وجدت) إعلان الحداد على ضحايا الأمن العام والمدنيين أثناء تلك الأحداث الأليمة. ما يلفت الانتباه أن وزارة الداخلية أعلنت حينذاك مقتل 300 عنصر من منتسبيها بهجمات للفلول، وحتى هؤلاء العناصر لم يحظوا على الأقل بجنازات تكريمية رسمية.
ثمة فشل كبير، سبق الهجوم وواكبه. هو فشل السلطة في التعاطي مع الملف الأمني بواقعية وشفافية، ما يضعها في موقع مسؤوليةِ مَن لم يبذل الجهد المطلوب في الحدود الدنيا، إذ لا يستقيم في ظرف أمني حساس أن ينصرف جزء من الاهتمام الأمني إلى ملبس الناس ومشروبهم. هذا في حده الأدنى هدرٌ لطاقات جهاز الأمن، وأبعد من ذلك هو من أسباب التوتر الاجتماعي، ومن ثم الأمني بما يعززه من أفكار متطرفة قد لا يبقى أصحابها في حيز التعبير السلمي عنها.
جزء من الفشل مردّه الأفكار التي تعتنقها السلطة، ولا يسهل عليها خلعها. لكن جزءاً كبيراً مردّه الاستئثار بمفاصل السلطة، ورفض مبدأ التشارك الفعلي. أيضاً، لا يجب فهم كلمة التشارك على مبدأ المحاصصة الطائفية، فجزء من التشارك المفقود هو مشاركة الكفاءات السورية. في مثال بسيط جداً، هذه السلطة تفتقر إلى مَن يكتب بها بياناً على أصوله، وتفتقر في الكثير من الأحيان إلى خبير قانوني جيد يدقق فيما تصدره من قرارات.
الاستئثار بالسلطة هو بوابة كبرى لتعميم انعدام الكفاءة أو تدنّيها، في وقت تحتاج فيها البلد إلى أوسع عملية تشاركية من أجل التقليل من آثار الفلتان الأمني، ومن أجل صيانة سلم أهلي حقيقي ومستدام. وعندما تستأثر السلطة بكافة مفاصل الدولة، ولا تشارك المجتمع على نحو حقيقي، فهي التي تضع نفسها أيضاً في موقع المسؤولية الحصرية عن كل ما يحدث، وعن الملفّ الأمني بكل سلبياته.
السوريون يميّزون جيداً بين المشاركة الفعلية وغير الفعلية، فعلى سبيل المثال كان في وسع السلطة الانتقالية تشكيل "مجلس تشريعي" من خبراء في هذا المجال، أما تسميته بمجلس الشعب من دون عملية اقتراع عامة، فهذا لا ينطوي على تقدير لمبدأ المشاركة. لقد حظيت هذه السلطة بمباركة داخلية وخارجية واسعة النطاق، وبالمعنى الفعلي هي سلطة بلا أعداء، ولم يكن يُنتظر منها حل المشاكل الموروثة دفعة واحدة، بل ألا تكرر الأخطاء التي أدت إلى تلك المشاكل؛ هذا يتطلب ألا تكون السلطة عدوة نفسها.