محمد وهبة -
«لا إنفاق بلا مدخول»، هذه واحدة من الخلاصات التي يردّدها وزير المال ياسين جابر نقلاً عن بعثة صندوق النقد الدولي. وهو يرى فيها أساساً لكل النقاش الدائر بشأن المالية العامة وخطوة زيادة الضرائب الأخيرة التي أقرّها مجلس الوزراء بناء على اقتراحه. لكن يمكن القول إنها مفتاح الوصاية على سياسات لبنان المالية بكل ما فيها من نفقات وإيرادات، أي إنه لن يكون بقدرة أي جهة أن تحلم بإنفاق إضافي، سواء لزيادة الأجور أو للاستثمار العام من دون فرض ضرائب جديدة.
ثمة وصاية أخرى يفرضها الصندوق على لبنان تتعلق بتمويل إعادة الإعمار، وهي أنه يربطها بتمويل من «الشركاء الخارجيين». من هم هؤلاء؟ أي علاقة تربط لبنان بهم؟ هل سيكون هذا التمويل مشروطاً؟ ثمة الكثير من الأسئلة التي يتركها الصندوق معلّقة.
أنهت بعثة صندوق النقد الدولي زيارة طويلة إلى لبنان امتدّت من 28 أيار الماضي إلى 5 حزيران الجاري. وفي ختامها أصدرت البعثة بياناً تضمّن النتائج الأولية عن النقاشات بشأن «برنامج إصلاح اقتصادي شامل وبرنامج إصلاح يمكن دعمه عبر ترتيبات مع صندوق النقد الدولي».
طبعاً استحوذ ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادة الثقة بالمصارف على جزء وافر من النقاش، بالإضافة إلى الإطار المالي الذي يُفترض أن يُتَرجم في موازنة 2026.
في المسألة الأولى، كانت البعثة متشكّكة في خطوات لبنان في ما يخصّ إقرار قانون معالجة أوضاع المصارف بشكل منفصل عن قانون معالجة «الفجوة» أو ما يمكن تسميته قانون توزيع الخسائر، واكتفت بالإشارة إلى أنه «سيلزم بذل المزيد من الجهود...».
أما في المسألة الثانية التي تمحورت حول موازنة 2026 ووضع إطار مالي متوسط الأجل، فلفتت البعثة إلى «محدودية الحيّز المالي والتمويل المتاح»، وشدّدت على أنه «من الضروري أن تُعوّض أي نفقات إضافية بالكامل عبر جهود الإيرادات المقابلة، بما في ذلك تعزيز الإنفاذ والامتثال في إدارة الضرائب والجمارك».
وطالبت البعثة بإستراتيجية متوسطة الأجل «لتعبئة الإيرادات وترشيد النفقات...»، فضلاً عن أهمية «إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز لاستعادة استدامة الدين». أما في مسألة إعادة الإعمار، فأشارت البعثة إلى أنه «نظراً إلى احتياجات لبنان الكبيرة لإعادة الإعمار، ستتطلب جهود السلطات الإصلاحية دعماً كبيراً من الشركاء الخارجيين، ويفضل أن يكون ذلك بشروط ميسرة جداً».
هذه كانت خلاصة جولة النقاش الأولى في اتجاه «صياغة برنامج إصلاح شامل» كما يسمّيها الصندوق. لكن، حتى بلهجة الصندوق التي تعتمد الديبلوماسية، فإن مضمون البيان لا يكتفي بتعداد المشكلات والتوصية بحلول لها، بل تقولها البعثة بوضوح، عبر استعمال لغة الأمر والنهي «ينبغي على لبنان»، «سيلزم»، «من الضروري»، «سيتطلب»... وبدا كأن المقصود ألا يخرج لبنان من حالة التقشّف الشديد إلا بإذن الصندوق، وأن يكون الإنفاق مرتبطاً بضرائب إضافية، وأن تتركّز عملية تمويل إعادة الإعمار في المساعدات الخارجية.
فالصندوق يدرك أن المساعدات لن تأتي إلا من مانحين لديهم طموحات سياسية وأمنية في لبنان، وأن استمرار التقشّف الشديد الذي تمارسه الحكومة اليوم سيلغي أي إمكانية لتطوير المؤسسات وموظفي القطاع العام وتطوير القطاعات والمشاريع الكبرى التي يحتاجها لبنان، بل سيحوّل موارد لبنان إلى أصول معروضة للبيع بأبخس الأثمان. عملياً، مطلوب أن تبقى وصاية الصندوق إلى جانب وصاية من يسمّوا «الشركاء الخارجيين».
إذاً، هل سنبقى في مسار التقشّف الشديد؟ لا يخفي وزير المال ياسين جابر في اتصال مع «الأخبار»، من انزعاجه من التأخير اللاحق بإقرار قانون معالجة أوضاع المصارف عبر «الملاحظات التي تواصل التدفق».
فالصندوق «أبلغنا بأن إصلاح قطاع المصارف أساسي لاستعادة الثقة ووقف اقتصاد الكاش ولإعادة الأموال للمودعين حتى يتم تحفيز الاستهلاك. كما إن الصندوق صُدم أثناء النقاشات في مسألة استدامة الدين وإعادة هيكلته بأن علينا ديوناً للعراق لم نسدّدها بالإضافة إلى ديون أخرى مثل ديون المقاولين وديون أخرى مترتبة على الخزينة. هل تعلم أن الصندوق البلدي المستقل مكسور على 400 مليون دولار؟ وفي الأمس سدّدنا للنفايات 50 مليون دولار. نكتشف كل يوم ديوناً متراكمة».
رغم ذلك، لا يقدّم جابر سوى تصوّر واحد: «يجب علينا إصلاح المؤسسات. حجم التدمير الذي لحق بالإدارة العامة ومؤسسات الدولة في السنوات الأخيرة كان هائلاً، ولا يمكننا تقديم أي تصوّر مالي واقتصادي للمستقبل من دون إصلاح هذه المؤسّسات لمعرفة حجم المداخيل التي ننتجها. لا يمكن رسم أي سياسة من دون تصحيح أدوات التحصيل الضريبي المدمّرة وصندوق النقد تحدّث عن هذا الأمر بوضوح. لقد ورثنا مؤسسات مدمّرة في المالية العامة وعلينا أن نبدأ من الصفر، فالقصة ليست سهلة أبداً.
أي مقاربة لتصوّر مستقبلي يجب أن تكون مبنية على القدرات المالية التي تأتي من المؤسسات المدمّرة مثل الجمارك وضريبة القيمة المضافة والدوائر العقارية وسواها».
أيضاً، جابر منزعج من كل هذا الانتقاد لفرض الضريبة على المحروقات. وهو يتمسّك بما «أبلغنا به صندوق النقد: لا مصروف من دون مدخول». إذاً، هل كان هذا السبب وراء فرض ضريبة على المحروقات؟ يجيب: «هذه الضريبة لم تفرض أي جديد على المستهلك، بل كان أصحاب المولدات يستوفونها لجيوبهم عندما يمتنعون عن خفض الأسعار للمستهلك رغم انخفاض الأسعار العالمية للمحروقات. الأولى أن تحصل عليها الخزينة.
كان علينا أن ندفع 360 مليون دولار لنحو 200 ألف عسكري «معتّرين»، علماً أن ضغوطاً كبيرة ألقيت علينا في هذا المجال». يقفز جابر سريعاً عن كل نقاش يتعلق بنوعية الضريبة التي فرضت وبآلية العمل الحكومية التي ليست منتجة ولا تناقش السياسات العامة بمقدار ما تناقش أهدافاً مرحلية يكون تحقيقها سهلاً وسريعاً... في الواقع، كلما اعتقد الوزير جابر أنه متيقّن من أمر ما حتى يُفاجأ بأمر آخر؛ فعلى سبيل المثال، يقول الوزير إن ما نشرته «الأخبار» في الأسبوع الماضي عن أن ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان بلغت 7 مليارات دولار هو غير صحيح وفقاً للتقارير التي تأتيه.
لكنه لا يعرف لماذا ينشر مصرف لبنان هذه الأرقام على موقعه الإلكتروني! أصلاً من أين أتى هذا الرقم: «لو كان لدينا 7 مليارات لكان الأمر أهون». التشكيك في أرقام مصرف لبنان ربما يكون أحد مؤشرات اهتزاز الثقة بالمؤسّسات في لبنان، فالرقم كبير جداً ورغم ذلك هو موجود وليس محصوراً بحساب الخزينة المعروف بـ«حساب الـ36»، بل يضاف إليه حسابات المؤسّسات العامة.
وتمسّك الوزير بقاعدة صندوق النقد «لا مصروف بلا مدخول» هو أمر ينبئ بأن الآتي أعظم. «فأي زيادة من الآن فصاعداً يجب أن تكون مبرّرة. لا يمكن أن نعطي كل واحد حسب شهيته».
إذاً، لماذا لا يناقش الوزير السياسات الضريبية بشكل شامل؟ الإجابة تعيدنا إلى النقطة الصفر: «لا يمكن النقاش في السياسات الضريبية قبل إصلاح المؤسسات التي تشكّل أدوات أساسية لمعرفة القدرات المالية الفعلية. لا يمكن أن أرسم سياسات لست قادراً على تنفيذها، والمؤسسات هي أدوات التنفيذ».
لكن في حال أي إنفاق إضافي ستضطر عليه الدولة، فمن أين ستدفع وزارة المال؟ «يجب أن نبحث في الأمر».
سؤال إضافي معاليك: أشيع بأن صندوق النقد طلب زيادة الضريبة على القيمة المضافة، فهل ستعملون من أجل فرض زيادة كهذه؟ «لا يمكن أن نفرض الآن زيادة الضريبة على القيمة المضافة من دون أن نعرف حجم الإيرادات التي نحصّلها الآن من ضريبة القيمة المضافة وما إذا كانت هذه الإيرادات هي كل ما يمكن تحصيله».