فراس الشوفي -
أفضل ما يقوم به «الترامبيون» هذه الأيام هو تعرية السياسة الدولية وكشف كواليس التفكير الحقيقي الذي يحرّك الأمم نحو مصالحها الحقيقية، بتجرّد وتلقائية، بعيداً من كل الشعارات الزائفة التي رفعتها المنظومة الدولية، بشقّيْها السوفياتي والغربي، خلال الحرب الباردة، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي. آخر هذه الصيحات، الإعلان الصريح الذي أدلى به عبر موقع «أكس» الموفد الأميركي إلى سوريا، توم باراك، بعد وقت قصير على لقائه رئيس الإدارة السورية المؤقّتة أحمد الشرع في إسطنبول.
وقد لقي التصريح كثيراً من الإهمال في وسائل الإعلام، ولم يلقَ صدىً حتى لدى القلّة القليلة التي لا تزال تهتمّ بمصير المنطقة ولبنان، ولا تقنعها كلّ حفلات التجميل والتطمين التي تروّجها بروباغندا القوى ذات المصالح الإقليمية والدولية.
قال باراك بوضوح: «منذ قرن، فرض الغرب خرائطَ وحدوداً مرسومة ووصايات وحكماً أجنبياً. فقد قسّمت اتفاقية سايكس - بيكو سوريا والمنطقة الأوسع لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام. وقد كلّف هذا الخطأ أجيالاً كاملة، ولن نسمح بتكراره مرة أخرى. لقد انتهى عصر التدخلات الغربية. المستقبل يعود للحلول الإقليمية، المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام».
قد يكون باراك، اللبناني الأصل، الذي صاغ كلماته بكثير من الحنكة، من جيل اللبنانيين ممن عايشوا مهاجري الجيل الثاني وبعض مهاجري الجيل الأول من بلاد الشام، الذين فهموا حقيقة مخاطر سايكس ـ بيكو في ذلك الوقت على منطقتنا. لكنّ كلامه لا يشكّل عودةً إلى موقف الرئيس وودرو ويلسون وإعلانه «حق تقرير المصير للشعوب» بعد الحرب العالمية الأولى، كردّ من الدولة الأميركية الجديدة على الهيمنة الأوروبية، تحديداً الفرنسية والبريطانية، على المستعمرات ومناطق الانتداب، وعرقلة لمحاولات روسيا ما بعد الثورة للتمدّد خارج حدودها.
فالرئيس ويلسون نفسه عاد وانقلب على مفاهيمه مسلّماً بمصالح بريطانيا وفرنسا وتركيا في الهلال الخصيب، ما سمح للثنائي الأوروبي ببسط النفوذ، وسمح لتركيا باقتطاع أجزاء واسعة من العراق وسوريا وبإحداث تغيير ديموغرافي لا تزال تداعياته مستمرّة حتى اليوم. كما لم يعارض ويلسون وعد بلفور، وسمحت الولايات المتحدة لاحقاً بقيام دولة إسرائيل، علّها تقدّم حلاً بداية للمسألة اليهودية في الغرب، قبل أن تتحوّل إسرائيل إلى ذراع عسكرية لتحقيق المصالح الأميركية.
وما يقوله باراك الآن ليس تفصيلاً عابراً، إنما مسألة بالغة الأهمية، و«تآمر» أميركي من الترامبية مع القوى الإقليمية الحالية، من أجل استعجال حسم الصراع العالمي مع الصين في منطقتنا لمصلحة الولايات المتحدة، عبر تنصيب تركيا وإسرائيل وكيلين إقليميين للإمبراطورية، فوق دماء ومصالح وسيادة شعب الهلال الخصيب وشعوب المنطقة العربية، بينما يتفرّغ الأميركيون لمعارك المحيط الهادئ.
الخطر الداهم جرّاء الضوء الأخضر الأميركي للجموح التركي التوسّعي ونهم المشروع الصهيوني لقضم الأرض، يترافق أيضاً مع تبدّل كبير للنظرة الأميركية تجاه العراق وسوريا ولبنان والأردن، وهو ما ظهر في حملة المقالات والدراسات التي بثّتها وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الأميركية، بمناسبة مئويّة اتفاقية سايكس ـ بيكو في أيار 2016.
ميّزت تلك المواد الإعلامية والثقافية، سمة مشتركة مهمّة، وهي اعتبار الكتّاب والباحثين أن مفهوم «حق تقرير المصير للشعوب» أُسيء استخدامه، ولا سيّما في اعتبار السوريين والعراقيين واللبنانيين داخل حدود تقسيمات سايكس ـ بيكو، شعوباً واحدة.
فلا يكفي الظلم الذي تعرّضت له المنطقة جراء هذا التقسيم المجحف جغرافياً واجتماعيّاً لشعب واحد وأرض واحدة، بل ذهب معظم كتّاب تلك الموجة قبل 9 سنوات، إلى أن التفسير الصحيح هو «حق تقرير المصير للجماعات»، على اعتبار أن سكان المنطقة هم جماعات إثنية ودينية وعرقية مختلفة، لكلّ منها الحقّ في البحث عن مشروع استقلالي يحميها كأقلية.
مثل هذا التفكير الأميركي في هذه الظروف الدولية العصيبة، وبعد مخاض الاقتتال المذهبي الذي مرّ (ويمرّ) به العراق وسوريا، يشكّل تهديداً وشيكاً للبنان، بحدوده الحالية وتركيبته الاجتماعية ودوره ومعناه التاريخي. ويمكن رصد بعض الإشارات الإقليمية والدولية التي قد تساهم في تحديد المخاطر المحيقة بلبنان على ضوء الأحداث في العقدين الأخيرين على الأقل.
أوّلاً، بغياب المشروع العربي، يبدو الفرز الإقليمي بين الجذب الإسرائيلي والجذب التركي مرشّحاً للتصاعد، من دون أن يصل إلى حدّ الصدام الفعلي، كون المظلة الأميركية هي مرجعية الطرفين، وتحول دون ذلك. وهذا يعني أن لبنان الواقع بين التأثير الإسرائيلي والتأثير التركي، عسكرياً واجتماعياً، سيكون ساحة من ساحات الصراع وصولاً إلى التفاهم على النفوذ والحصص، ما يفتح البلد على كلّ أشكال التوترات والصراعات، في الجنوب والشمال وبعض المناطق الأخرى، مع تعاظم أدوات تأثير الطرفين الداخلية، تركيا بشكل علني وإسرائيل بشكل خفي، حتى الساعة.
ثانياً، بعد 15 سنة من الحرب في العراق ومثلها في سوريا، وحملات التهجير الواسعة التي حصلت من كل الأطراف من دون استثناء، بالإضافة إلى مشهد تهجير أكثر من 200 ألف أرمني من كارباخ في عام 2019، وقبلها تهجير عشرات آلاف الأكراد والسوريين من مدينة ماردين التركية في عام 2016 (تقع ماردين في الأراضي السورية المحتلة تاريخياً من تركيا في الجزيرة الفراتية العليا عام 1920) على يد الجيش التركي، ومدينة عفرين في عام 2018 على يد الجيش التركي وحلفائه من الجماعات السورية المسلّحة، وحرب الإبادة والتهجير التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة من دون أي رادع ومنع العودة إلى جنوب لبنان، فضلاً عن حملات التهجير الفظيعة «الصامتة» والانتهاكات الواسعة في السودان خلال العام الماضي، يصبح الحديث عن تهجير جماعات بأكملها في القرن الـ 21 أمراً ليس بعيداً من الواقع. وهو ما قد تلجأ إليه إسرائيل بحقّ الشيعة في لبنان، من الجنوب أو من الشرق اللبناني بالتعاون مع النظام السوري الجديد، أو ما قد تلجأ إليه تركيا في شمال لبنان بحقّ العلويين أو المسيحيين كما فعلت قبل مئة عام بالضبط بحق سكّان الشرق والشمال السوري، ما يضع لبنان بأكمله أمام خطر وجودي.
ثالثاً، كانت منظمة الأمم المتحدة، على علاتها، تشكّل رقيباً دولياً لحركة الدول ومكاناً لإدارة الصراعات بخسائر الحد الأدنى. عملياً، أطلق الرئيس الأميركي رصاصة الرحمة على المؤسسة الدولية عندما اتّخذ قرارات وقف التمويل، مُنهياً بذلك مرحلة من الموت السريري دخلتها المنظمة بعد الحرب الروسية - الأوكرانية. كما تبدّلت أولويات الدول الأوروبية الفاعلة، من صرف الموازنات على الترويج للمواطنية الغربية ومفاهيم حقوق الإنسان، إلى التركيز على الأولويات الأمنية تجاه سباق التسلح مع روسيا والخوف من المهاجرين، مع إهمال التطورات الداخلية في دول المنطقة إلّا بما يؤثّر على المصالح الغربية بشكل مباشر، ما يفسح المجال أيضاً لزيادة النفوذيْن التركي والإسرائيلي والأجندات المتضاربة.
رابعاً، أسقط ترامب أيضاً كل اللياقات الدبلوماسية والاتفاقات المُسبقة في ما يخص حدود الدول، عندما يعمل بشكل حثيث للسيطرة على غرينلاند وانتزاعها من القبضة الدانماركية الأوروبية، أو عندما يطالب بضمّ كندا بأكملها، ضارباً عرضَ الحائط بمفهوم السيادة والحدود المُعترف بها دولياً. وإذا كان رئيس أكبر دولة في العالم تستضيف الأمم المتحدة ومؤسساتها (تبحث الأمم المتحدة عن مكان آخر في العالم لتنتقل إليه) لا يقيم اعتباراً للأعراف الدولية، فلماذا ستلتزم الدول الإقليمية ذات الطموح التوسعي، مثل إسرائيل أو تركيا، بالحدود، وأمامها شعوب مهشّمة منقسمة على ذاتها ودول ضعيفة تعيش لكي لا تموت؟
هذه المؤشّرات مجرد إشارات إلى جزء من المخاطر التي تتهدّد لبنان، لبنان الكبير الذي سيكون عليه أن يدافع باستماتة عن حدوده وأمنه وتركيبته الداخلية بكل الوسائل في ظل الجنون الدولي والإقليمي، ويحافظ أيضاً على آخر مظاهر الحياة خارج التطرّف الديني والعنصرية، في منطقة تنحدر نحو أقسى درجات الظلام الطائفي.