رغم تعدّد العوامل التي ساهمت في تراجع قوى التغيير خلال الانتخابات البلدية الأخيرة في لبنان بشكلٍ عام وفي الجنوب بشكلٍ خاص، فإنّه يُمكن الاعتبار، أو الافتراض، أن غياب هذه القوى شبه الكامل عن المشهد السياسي منذ السابع من تشرين الأول 2023، تاريخ اندلاع الحرب في غزة، هو السبب الرئيسي لهذا التراجع. هذا الغياب لم يكن تقنيًا أو ظرفيًا، بل سياسيًا بامتياز، وكشف عن أزمة في الرؤية والتموضع، انعكست مباشرة على حضور هذه القوى في الشارع، وصورتها كبديل محتمل للقوى التقليدية.
ولا يعني هذا التركيز على التموضع السياسي نفي وجود أسباب أخرى، تتعلّق بأداء هذه القوى منذ الانتخابات النيابية عام 2022: من التشرذم الداخلي، إلى ضعف التنظيم، وصولًا إلى العجز عن تقديم خطاب وطني موحّد. وهي أسباب تستحق العودة المفصّلة إليها لاحقاً لما لها من دور مهم في تعميق أزمة المشروع التغييري. لكنّ الغياب عن قضايا كبرى بحجم ما بعد السابع عشر من تشرين، قد يشكل نقطة تحوّل واضحة.
الفرصة الضائعة: ما بعد السابع من تشرين
شكّلت الحرب على غزة لحظة سياسية وإنسانية فارقة، عملت على تعرية الاحتلال وأعادت فتح ملفات الصراع الإقليمي، وانعكست مباشرة على الداخل اللبناني، خاصةً في الجنوب. في هذه اللحظة، لم تُصدر قوى التغيير أي موقف سياسي جدي. لم تُطلق بيانات تضامن، ولا نظّمت تحركات، ولا انخرطت في أي نقاش عام حول المجازر، أو حملات الاقتلاع القسري، أو الانتهاكات، أو تداعيات الحرب على لبنان. ولا انضمت ولو بشكلٍ محدود إلى ما كان يحدث في شوارع وساحات كبرى المدن العالمية، وفي ملاعب كرة القدم، ومعارض الكتب، وأروقة الجامعات ومحطات تخرج الطلاب والمهرجانات وكافة المحافل الفنية والتفافية؛ بل اكتفت بالصمت والغياب.
بالنسبة لشرائح واسعة من اللبنانيين، خصوصًا ممن كانوا يتطلعون إلى قوى التغيير كبديل أخلاقي ومدني، بدا هذا الصمت وكأنه تخلٍّ عن القضايا المركزية. فالقضية الفلسطينية ليست تفصيلًا، ولا هي بعيدة عن السيادة الوطنية، بل تتقاطع مع وجدان الناس، وقلقهم، وحقوقهم. في بلد مثل لبنان، حيث يتداخل المحلي بالإقليمي، الصمت لا يُفسَّر حيادًا، بل انكفاءً.
إشكالية التعامل مع معركة الجنوب
عند دخول حزب الله على خط المواجهة في الجنوب ضمن ما سُمّي “معركة الاستاد”، اكتفت بعض مكوّنات التغيير بتعليقات سطحية انتقاصية أو ساخرة، دون أن تُقدّم بديلًا سياسيًا جدّيًا. لم تُطرح رؤية واضحة تعالج معضلة السلاح، أو الموقف من الحرب، أو حماية وصون حدود الدولة، أو دور الجيش. لم يظهر حتى حدّ أدنى من محاولة بناء خطاب وطني مسؤول، يمكن أن يطمئن جمهورًا قلقًا من التصعيد، دون أن يبدو متماهيًا مع محور أو جهة.
وهكذا، تكرّس الانطباع بأن قوى التغيير عاجزة عن ملاقاة الأحداث الكبرى، أو أنها تفتقد القدرة على التعبير عن نفسها بوضوح عند اللحظات الحرجة.
لا موقف من الانتهاكات ولا من الإعمار
مع تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على القرى الجنوبية، وتهجير آلاف العائلات، بقيت قوى التغيير صامتة. ولاحقاً مع ما شاب مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار من استمرار احتلال بعض النقاط ومن مواصلة الاعتداءات، لم تتبنّ هذه القوى مواقف تطالب بوقف الانتهاكات، ولم تطرح خطة لإعادة الإعمار، ولا أي رؤية تدافع عن حقوق السكان المتروكين لمصيرهم، ولا وجدت نفسها معنية بالنقاش حول استراتيجية أمن وطني. في وقت بدا فيه الجنوب مجددًا ضحية الحرب والتهميش، غابت هذه القوى عن الحدث، واكتفت بالمراقبة.
وهذا الغياب، في نظر أهل الجنوب ومحيطهم، كان بمثابة تأكيد على أن المشروع التغييري لا يشملهم، ولا يتقاطع مع قضاياهم اليومية أو المصيرية.
نتائج الانتخابات: مرآة التموضع
في ظل الفرز الطائفي السائد أتت نتائج الانتخابات البلدية لتعكس هذا الفرز بوضوح: الثنائي الشيعي حافظ على مواقعه، متسلّحًا بالتماسك والموارد والخطاب الميداني. التشكيلات الطائفية الأخرى حافظت على وضعياتها لأن ما حصل في غزة وفي الجنوب اللبناني لم يشكل أي مشكلة جديدة تستوجب اشتقاق الأجوبة المناسبة لها، فهذه القوى تملك إرثا من كيفية النظر لقضايا اتصال لبنان بمحيطه، وهي مكوّنات سياسية تحافظ على خطاباتها المعروفة ومواقفها المعروفة من الصراع العربي–الإسرائيلي؛ وعلى الرغم من تباين هذه المواقف لدى كل طرف (مثل الالتزام باتفاقية الهدنة الموقعة هام 1949 أو الاكتفاء بعروبة الاقتصاد والحياد في المسائل الأخرى، أو الانضواء تحت موجبات السقف الرسمي العربي ..إلخ) فإنها تشكل عنصر أمان لقاعدته، بل تساهم في تعزيز موقعه انتخابيًا. وتنسجم مع هويته، ما يجعله قادرًا على خوض استحقاقاته الانتخابية بوضوح وبدون قفازات.
هذا الوضوح، بحد ذاته، عطف على واقعٍ مخصوص تتسم به قوى التغيير في لبنان ليسهم هذان العاملان معاً في تعميق مأزق هذه القوى وفي تراجع حضورها خلال الانتخابات البلدية. ففي الظرف المخصوص إذ تنتمي قوى التغيير إلى المجتمع المدني اللبناني الذي يشتهر بديناميته (الدينامية التي تشكل عنصر فرادة للبنان ناجمة عنما تشتهر به جمعيات المجتمع المدني ومنظماته وشبكاته التي تعكف منذ عقود على طرح قضايا حقوق الإنسان، وتزعم التخصص في أصوله وشرعته وعهوده واتفاقياته، وتتميز بغنى التجربة في نشر هذه القضايا ، كما عرفت هذه القوى بطلاقة الفكر واللسان وسرعة المبادرة متى تعرضت هذه الحقوق لأي انتهاك في الجوارين العربي والإقليمي)؛ فإن هذه الدينامية تحولت صمتاً وسكينة حيال ما جرى ويجرى في غزة وعلى أرض لبنان. وهذا ما خلق نوعًا من الفرز السياسي، بين من يملك رؤية وموقفًا، ومن يتماهى مع مواقف قوى الطوائف المفترض بالمجتمع المدني أن يشكل عامل إعادة تعيين لمكانتها وعامل تغليب وتعزيز للهوية الوطنية العامة.
والحال فإن قوى التغيير بدت بالنسبة للكثيرين أنها استنسابية في طرح القضايا وأنها لا تغلّب المصلحة الوطنية، وأنها تتماشى مع عالمٍ يكيل بمكاييل كثيرة، ويصعب عليها الجمع بين الديمقراطية والسيادة الوطنية. لذا تراجع حضورها وأداؤها في الانتخابات البلدية وظهرت مشتّتة وفاقدة القدرة على التعبئة أو المبادرة. وجاءت النتائج كمرآة لصورة سياسية غابت عنها المبادرة، وتراجع فيها المشروع.
السياسة لا تنتظر المترددين
لعل من سوء حظ قوى التغيير أنه كان عليها خوض الانتخابات البلدية بعد توقف الحرب وما طرحته من أسئلة عميقة اكتفت حيالها بالصمت، ومعه فإنّ غياب الموقف السياسي الواضح حيال ما حصل منذ السابع من تشرين الأول، هو أحد العوامل، ما لم يكن العامل الأبرز، في تراجع قوى التغيير انتخابيًا. هذا الغياب كشف عن فجوة خطيرة بين هذه القوى وبين الواقع، وعن عجز في قراءة المزاج الشعبي، لا سيما في ظل التحوّلات الكبرى في الإقليم. الصمت لم يحمِ أحدًا، بل عقّد المشهد، وأضعف الحضور، وأفقد المشروع التغييري زخمه الأخلاقي والسياسي.
وإذا كانت هذه القوى تطمح فعلًا إلى استعادة المبادرة، فعليها أن تدرك أن السياسة لا تُمارس فقط من خلف الشاشات، ولا في قاعات المؤتمرات، ولا تُختزل بالحوكمة والإدارة. بل هي، أولًا، القدرة على اتخاذ موقف، في الزمن الصحيح، ومن المكان الصحيح.
أما الأسباب الأخرى، المرتبطة بالأداء التنظيمي، والانقسامات، وانعدام الرؤية الاستراتيجية بعد انتخابات 2022، فتستوجب العودة إليها لاحقاً لأنها لا تقلّ أهمية، ولأنها تُكمّل محاولة فهم هذا المسار المعقّد من التراجع.