الأخبار: المشرق العربي: عبد المنعم علي عيسى-
منذ الثامن من كانون الأول الفائت، تركّز خطاب السلطة الجديدة في سوريا حول محورين اثنين: أوّلهما، القول بوراثة دولة منهكة ومدمّرة ومفكّكة، ومثقلة بديون قد يستحيل الإيفاء بها حتى على المدى المتوسط؛ والثاني، يروّج أن المصلحة الوطنية العليا تقتضي تبنّي سياسة «صفر مشاكل» مع الجوار، على شاكلة النظرية التي أطلقها أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء التركي الأسبق، في مطلع العقد الثاني من هذه الألفية.
أما داخلياً، فالتوجّه ركّز على الاقتصاد وترميم البنى التحتية، بوصفهما الفعلين الكفيلين، وفقاً لذلك الخطاب، بجرّ «الاستقرار» على قدميه، تمهيداً لاستعادة «اللحمة الوطنية» المفقودة جرّاء «حرب أهلية» عاشتها البلاد طوال ما يقرب من أربعة عشر عاماً.
والأكيد أن المقصود أولاً من سياسة «صفر مشاكل»، هو العلاقة مع الكيان الإسرائيلي، الذي كان التطبيع معه أحد الشروط الأميركية التي عرضها الرئيس دونالد ترامب، على نظيره السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خلال اللقاء الذي جمعهما في الرياض، في 14 أيار الماضي. واللافت، هنا، أن «المنصة» المقترحة للتطبيع ليست سوى «اتفاقات آبراهام»، التي وقّعتها الإمارات عام 2020، ثم لحقت بها ثلاث دول عربية أخرى، هي البحرين والمغرب والسودان.
غير أن المشهد السوري مختلف كلياً، من الناحية الجيوسياسية عن أوضاع الدول التي انخرطت في تلك الاتفاقية؛ إذ إن دمشق، بخلاف الأطراف المذكورة، تملك حدوداً مباشرة مع الكيان الذي يحتل أراضيَ تابعة لها. كما أن وضعية الحكومات التي وقّعت «آبراهام» تختلف عن نظيرتها السورية التي لا تزال تحمل توصيف «المؤقتة»، الأمر الذي يخوّل الأخيرة، فقط، التمسّك بالعودة إلى اتفاق «فضّ الاشتباك» الموقّع ما بين دمشق وتل أبيب عام 1974. وأي اتفاق يتجاوز الأخير، سيكون بمثابة وصفة «ناجعة» تُضاف إلى العديد من الوصفات الجاهزة الأخرى، والتي من شأنها أن تؤدي حتماً، طال الوقت أم قصر، إلى انفجار الوضع السوري.
ولا يمكن، في أي حال، الركون إلى استطلاعات الرأي الغربية التي تُصدَّر للقول بأن «مزاج السوريين العام» بات أقرب إلى القبول بـ«صلح تاريخي» مع إسرائيل؛ فالمشهد هنا مرحلي، أو لحظي، ويتعلّق بتهتّك القوى والتيارات الحاملة لمشروع النهوض السوري، والذي لن يكون إلا بمواجهة المشروع الإسرائيلي، وما يحمله هذا الأخير من طموح إلى أن تصبح المنطقة برمّتها تحت مظلّته.
ولا دليل أبلغ على المعنى المتقدّم من الموقف الذي اعتمدته حكومة الشرع حيال ملف ترسيم الحدود مع لبنان؛ إذ إن اجتماعات جدة لم تُسجّل أي خطوات عملية في هذا الاتجاه، بل إن ما تسرّب منها، ومعظمه غربي المصدر، يؤكد أن دمشق ربطت ذلك الأمر بترسيم الحدود مع تركيا وقبرص، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن أنقرة هي في موقع المتحكّم بصنبور «تصفير المشاكل»: متى يُفتح؟ وأين يصبّ؟ وما هو حجم تدفّقه؟
في المدى المباشر، كان الهدف الأول لحكومة الشرع هو التخفيف من وطأة العقوبات المفروضة على البلاد، ولو مقابل تنازلات كبرى، أملاً في توفير «الوقود» اللازم لـ«عربة» الاقتصاد الساكنة. وبالفعل، ما حصل هو أنها نالت بعض هذا الوقود بعد إعلان ترامب عزمه رفع العقوبات عن سوريا، وما تلاه موقف مشابه من الاتحاد الأوروبي. وهكذا، بدا لها وكأن انفراجة ما تلوح في الأفق، لكنّ الصورة الاقتصادية التي ارتسمت بعد الحدثين كانت كفيلة بتصدير القلق بدرجة تفوق تلك التي كانت سائدة قبلهما.
وفي تقرير كتبته سالي عبيد، رئيسة قسم الشؤون الاجتماعية في شركة «كوبل كوميونيكيشنز» الإماراتية، وهي شركة ذات اعتبار خاص في ظل التجاذب الإماراتي - القطري حول سوريا، جاء أن اتفاقاً جرى توقيعه بين حكومة الشرع وشركة « UCC» القطرية، ويتضمّن إنشاء وتشغيل محطات كهرباء حرارية بالشراكة مع شركتَي «جنكيز» و«ياليون» التركيتين. وبحسب التقرير، فإن العقود وُقّعت وفق نمطَي BOO وBOT، أي إن الشركات ستمتلك وتبيع الكهرباء للسوريين بشكل مباشر لمدة تصل إلى 30 سنة، من دون وجود سقف سعري واضح، أو وجود هيئة مستقلّة تضمن عدالة التسعير.
وأضافت عبيد، في تقريرها، أنه تم الإعلان أيضاً عن إنشاء شركة جديدة تحمل اسم «Syrius Energy»، تحوز فيها الشركات الأجنبية على 70% من الأسهم، عبر صندوق سيادي لا يُعرف شيء عن تركيبته. وتلفت عبيد إلى أن العقود الموقّعة هي من نوع «منح حق الاستثمار الكامل للمنطقة الحرة في حسياء وعدرا الصناعية لشركة تُدعى Fidi Contracting»، واصفة العقد الموقّع مع الأخيرة، بأنه «لا يقل غموضاً عن سابقيه». على أن الأخطر في كلّ ما تقدّم أن هذه الممارسات تجري من دون رقابة تشريعية، ولا إمكانية لوضعها أمام المساءلة، في ظلّ غياب إعلامي عن تسليط الضوء عليها.
وعلى أي حال، تشي السردية الأولى بوجود جهد مبذول لإحداث تموضع جيوسياسي سوري جديد، يناقض تماماً ذلك الذي كان قائماً قبل قرن من الزمان، أي منذ نشوء الكيان السوري بشكله الحالي.
ولعلّ ما يعزّز هذا الاستنتاج، ما كتبه رجل الأعمال الأميركي جوناثان باس، المقرّب من ترامب، في «المجلة اليهودية» بتاريخ 28 أيار الماضي، حيث نقل عن الشرع الذي التقاه أخيراً، قوله إن «لدى إسرائيل وسوريا أعداء مشتركين».
أما السردية الثانية، فتكشف أن ما يجري لا علاقة له ببناء الاقتصاد، بل بتفريط ممنهج تحت غطاء «الاستثمار»، وأن العملية برمّتها أشبه ما تكون بممارسات «إدارة منتدبة» على موارد الدولة؛ إذ إن الشركات توقّع عقود تملّك لا عقود بناء، والمواطن لن يكون له من دور سوى الوقوف على واجهة مكتوب عليها «كُوّة الدفع».
وما تقدّم من شأنه أن يُحدث تأثير «الصدمة»، التي لا شبيه لها إلا تلك التي عاشتها روسيا أواخر عام 1991، حين أُفرزت طبقة من «الأوليغارشيين» كانت وظيفتها تدمير «نَويات» النهوض الروسي خلال المرحلة «اليلتسينية» (1991 - 1999)، ومن ثمّ عرقلة أي محاولة للنهوض من جديد.