أخفى دخان "17 تشرين" وضجيجه الخفايا والأهداف الحقيقية وراء استخدام نقمة الشارع اللبناني على ضريبة السنتات القليلة على "واتس آب". أمام الحملة المبرمجة والدعاية المكثفة، كان من المستحيل أن تُقنع الجماهير بأنَّ أهداف التحريك سياسية، وبأن هكذا مسار لن يوصل إلى حل الأزمات الإقتصادية والمالية، وبأن مستقبلاً أفضل لا يكون إلا بتقاطعات سياسية حول برنامج عمل واضح. كان الضجيج أقوى من العقل.
جرت مياه كثيرة منذ ذلك الحين. وصلَ نواب يصنِّفون أنفسهم على أنهم "نواب التغيير". أنهى الرئيس العماد ميشال عون ولايته بغرزِ التدقيق الجنائي في رأس المنظومة، وحتى اليوم، لم يستطيعوا اقتلاعه وإن حاولوا المماطلة. انتُخب رئيسٌ جديد وشُكِلت حكومة هي عبارة عن تمثيل لقوى المنظومة لكن بأسماء جديدة، ومع ما اعتُبرَ أنه نهج جديد و"تغييري".
لكن حصل ما كان متوقعاً، وهو "عودة الحكومة إلى صباها" في تقليد فرض الضرائب العشوائية والإنزلاق إلى التضخم "المتضخّم" أصلاً. إصلاحات متعثرة وتعيينات تقليدية. لا رؤية ولا خطة ولا مقاربة لانتشال لبنان من أزمة تعمّدت المنظومة المصرفية – السياسية إطالة أمدها. وفي بداية فصل الصيف، ومع توقع أزمات المياه بعد شحٍ كبير، اختارت الحكومة أسوأ توقيت لتوجيه ضربة للإقتصاد اللبناني، وجعل المواطن العادي يدفع ثمن سياسات الفشل.
بيت القصيد ليس بسياسات الحكومة بقدر ما هو إمعان في انكشاف زيف من "ركبَ" نقمة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول 2019. حملوا الطبول والأبواق ورقصوا على "الرينغ" والساحات واعدين بالمن والسلوى. كذبوا وهاجموا وأطلقوا العنان لأسوأ حملة "مكارثية" في تاريخ لبنان المعاصر، فإذا بالأكاذيب تتداعى وبالحقائق تعود للسطوع من بين كل القنابل الدخانية.
ولكلّ كذبة حقيقة دامغة. هاجموا سد بسري بالغوغائية، فإذا بنائب "القوات" شوقي الدكاش "يركب" سياسة السدود التي بادر إليها التيار الوطني الحر وتحديداً رئيسه جبران باسيل في وزارة الطاقة. الوزير جو صدي أساساً اعترف علناً بأن لا خطط جديدة، بل الخطط القديمة موجودة. استيقظوا بعد فوات الأوان وأكثر من عشرة أعوام أن هناك نزوحاً سورياً لا بد من معالجته وضبطه وإعادة النازحين بعدما تجاوزوا المليونين. وزراء "القوات" يوافقون على الضرائب فيما نوابهم يتنصلون منها بعد انكشاف فداحتها.
والأنكى، أن من نفّذ خطة تحريك الشارع على بضعة سنتات، صمت ك"أهل الكهف" عن ضريبة مماثلة على الوقود، وعلى بدء عملية تضخم وغلاء جديدة. هناك ضجيج وطبول وأبواق، وهنا صمتٌ كبير.
هذا الصمت هو حقيقة أن هناك شعباً خدعوه بالأكاذيب والدعاية. صدّق أن من كان شريكاً أو متواطئاً منذ التسعينات، يمكن أن يقود "ثورة". لا بل صدق أن "ثورة" يمكن أن تصبح حقيقة من دون برنامج ومن دون رؤية ومن دون قيادة واضحة، وأن تستهدف "الثورة" المزعومة من كان ثائراً حقيقياً في داخل "داخل المنظومة" ورغماً عن كل تعقيداتها وصعوباتها.
كل ما يحصل متوقع. المسؤولية الآن على من صدّق وخُدع بالأكاذيب في أن يسائل ويحاسب!
*رئيس تحرير tayyar.org