أنطوان الأسمر-
يواجه لبنان راهنا مفترقاً مصيرياً قد يكون الأكثر حراجة منذ نهاية الحرب. أنهكه الانهيار المالي وتآكل مؤسساته وتشرذمها، حتى بات محاصرا بين متغيرات إقليمية سريعة، وضغوط دولية غير مسبوقة، وأزمات داخلية لا تحتمل مزيداً من الانتظار أو التسويات الهشة. فهل هو في صدد تفويت فرصته الأخيرة للخلاص، أم أن لحظة الوعي الوطني لا تزال ممكنة، ولو في اللحظة الأخيرة؟
يتّضح أن المجتمع الدولي لم يعد يرى في لبنان مجرد بلد صغير يعاني أزمة بنيوية، بل يضعه في سياق إقليمي واسع يتغير بسرعة. باتت واشنطن، ومعها شركاء غربيون أساسيون، تعتبر أن استمرار الواقع اللبناني كما هو – حيث يوجد سلاح خارج الشرعية، وفساد مزمن، ولا قدرة للدولة على فرض هيبتها –عائق مباشر أمام أي تدخل اقتصادي أو سياسي لمساعدته. لم تعد الدول المانحة مستعدة لتقديم دعم غير مشروط، ولا لمواصلة لعبة الإنكار التي يتقنها اللبنانيون، بل تريد خطوات ملموسة تبدأ من ملف سلاح حزب الله ولا تنتهي عند إصلاح الإدارة والقضاء والمالية العامة.
لا يكتفي الموقف الأميركي بتحديد سقف للمطلوب لبنانيا، بل يضع جدولاً زمنياً – حتى وإن بقي غير معلن – لتنفيذ هذه المطالب. الضغط ليس شكلياً، ولا إعلامياً، بل يأتي عبر قنوات ديبلوماسية واضحة، ورسائل سياسية معلنة، وتحذيرات ضمنية من أن لبنان قد يُرفع من جدول الاهتمام الدولي إن لم يُظهر جدية في التغيير. لن تكون بروتوكولية الزيارة المرتقبة لمورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الرئاسي الأميركي.، بل هي محمّلة بإشارات حول مستقبل العلاقة الأميركية – اللبنانية، والفرص الضائعة إذا استمر الجمود.
في الموازاة، تلوح ملامح تصعيد أمني في الجنوب، فيما أعادت ال أبيب نشر "لواء الجليل" على طول خط التماس مع لبنان، في خطوة تعكس استعداداً واضحاً لاحتمال المواجهة. باتت إسرائيل، التي راقبت عن كثب التموضع العسكري لحزب الله طوال الشهور الماضية، واستشعرت هشاشة التفاهمات التي حالت دون حرب شاملة، تتحرّك على أساس أن التهدئة قد تنهار في أي لحظة. ومع تراجع فاعلية الردع الدولي، واحتمال تآكل دور قوة اليونيفيل، يصبح الجنوب عرضة لاشتباك جديد، لا يُعرف كيف يبدأ أو أين ينتهي.
تواجه قوات اليونيفيل التي تكتسب رمزية تتجاوز بعدها العسكري المباشر وتمثّل التزاماً دولياً واضحاً باستقرار الجنوب، تضييقاً غير مسبوق، واعتداءات ميدانية بدأت تتخذ طابعاً منظماً أو على الأقل مكرراً بشكل يثير القلق. وتتحدث التقارير الديبلوماسية عن شعور متنامٍ لدى الدول المساهمة في اليونيفيل بأنها تعمل في بيئة معادية، أو على الأقل غير مرحّبة، ما يدفع ببعضها إلى إعادة النظر في جدوى المشاركة، ويشجع دول أخرى على الدفع نحو تغيير قواعد الاشتباك، بحيث تتمكن اليونيفيل من التحرك دون موافقة مسبقة من الجيش اللبناني.
يفتح هذا التوجه، الذي يصطدم برفض حزب الله واعتباره تعدياً على السيادة، الباب على إشكالية أعمق تتعلق بتعريف السيادة نفسها. فهل هي فقط رفض أي تدخل خارجي، أم أنها تبدأ من قدرة الدولة على بسط سلطتها على كامل أراضيها، وضبط السلاح، وتطبيق القانون؟ الواقع أن لبنان يعيش نوعاً من التناقض البنيوي بين مفهوم السيادة القانونية وممارسة السيادة الفعلية، حيث تستمر قوى حزبية وغير رسمية في فرض "حدود سياسية وأمنية" ميدانية تمنع الدولة من أداء وظائفها. وهذا ما يجعل الحديث عن السيادة في كثير من الأحيان شكلياً، أو حتى ساذجاً.
يكمن التحدي الحقيقي في أن هذا الوضع بات يضعف أوراق الدولة اللبنانية في المحافل الدولية. فبعثة لبنان في الأمم المتحدة تجد نفسها عاجزة عن تبرير استمرار مهمة اليونيفيل بالشروط الحالية، في ظل انعدام الحد الأدنى من الضمانات الأمنية. ومع كل حادثة جديدة، تتزايد الضغوط لتحجيم المهمة أو سحب الجنود، مما يعني فعلياً تفكيك الحماية الدولية التي وفرتها هذه القوة، وترك الجنوب مكشوفاً أمام احتمالات إسرائيلية شتّى.
في ظل هذا المشهد، يقف لبنان أمام لحظة قرار مصيرية، لا تقل خطورة عن لحظات مفصلية في تاريخه الحديث. فإما أن ينجح في بلورة تسوية جديدة تعيد الاعتبار إلى الدولة ومؤسساتها، وتفتح الباب أمام استعادة الثقة الدولية، أو أنه سيتحول إلى ساحة متروكة لتجاذبات إقليمية، وعاجز عن فرض نفسه طرفاً فاعلاً في تحديد مستقبله.
المشكلة أن القوى السياسية ما زالت، في معظمها، تتعامل مع الوضع القائم بوصفه قابلاً للتأجيل والتدوير. لا أحد يجرؤ على المواجهة، أو يمتلك تصوراً متكاملاً لكيفية الخروج من المأزق. الجميع ينتظرون الخارج، والخارج بدأ يفقد الصبر. وفي الأثناء، تستمر التوازنات القديمة في تقييد أي محاولة فعلية للتغيير.
اللحظة قاسية، لكن وضوحها لا يحتمل الالتباس: إما أن يُعاد بناء الدولة على أسس جديدة تُبدّي المصلحة العامة، وإما أن يُترك لبنان نهباً للتآكل الداخلي والتخلي الدولي، وما يحمله ذلك من مخاطر الزوال السياسي والاقتصادي، وربما الكياني.