شكّلت الانتخابات البلدية والاختيارية لعام 2025 محطة مفصلية في مسيرة التيار الوطني الحر، إذ خاض هذا الاستحقاق على امتداد الجغرافيا اللبنانية وسط ظروف سياسية وأمنية ومالية ضاغطة لم تنفكّ تُثقل الواقع اللبناني منذ العام 2019، وهو العام الذي يراه التيار بداية لمسار ممنهج من الاستهداف السياسي بلغ حدّ محاولة "الاغتيال السياسي".
وعلى الرغم من محاولات خصومه في الداخل والخارج عزله ومحاصرته، برز التيار مجدداً كقوة سياسية كبيرة على الساحة المسيحية واللبنانية، مؤكداً قدرته على التأقلم والتنظيم والصمود. وقد إعتُبرت هذه الانتخابات، وفق ما أوضحت أوساط قيادية فيه لـ"لمدن"، "امتحاناً سياسياً وشعبياً ولوجستياً وإدارياً شاملاً"، دفع باتجاه إستنفار كامل للماكينة الحزبية، التي أعادت تفعيل حضورها الميداني، فنجحت في الحشد، وتنشيط القواعد، وبناء التحالفات، وقياس المزاج الشعبي بدقة على إمتداد المدن والبلدات والقرى.
رسوخ في الحضور ومرونة في الأداء
واجه التيار ما يعتبره حملة سياسية وإعلامية منظّمة، بلغت حدّ "الحرب الأطلسية"، على حد وصف النائب السابق فارس سعيد. ومع ذلك، فإن صناديق الاقتراع في استحقاق 2025 جاءت لتُظهر أن التيار لا يزال يحتفظ بثقة شريحة واسعة من اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين على السواء، تبنّوا مشروعه ورفضوا عزله.
في هذا السياق، شكّلت مدينة جونية مثالاً بارزاً، حيث تضافرت محاولات الحصار المالي والسياسي، لكن إرادة الناخبين تصدت له، ومنحت التيار نصراً معنوياً وسياسياً أعاد إليه شرعية الحضور الشعبي.
وبحسب قراءة قيادة التيار لنتائج الانتخابات، فإن القيمة المضافة لم تكمن فقط في الأرقام، بل أيضاً في ما كشفته التجربة من صلابة تنظيمية، واستمرار في الانخراط الشعبي، رغم التحديات. كما أظهرت العملية الانتخابية بعض الثغرات اللوجستية والتنظيمية التي يعمل التيار على معالجتها ضمن مراجعة داخلية جدّية تهدف إلى رفع الجهوزية للاستحقاقات المقبلة.
كذلك، برز خلال هذه الانتخابات جيل جديد من الشباب المثقف والواعي، الذي خاض المعركة البلدية والاختيارية وأثبت حضوره بفعالية. ويُبدي التيار حرصه على الاستثمار السياسي في هذه الطاقات، وضخّها في بنيته التنظيمية، بما يواكب التحولات الاجتماعية والسياسية.
من مؤتمر 14 آذار.. إلى انتخابات 2026
في مؤتمر 14 آذار السنوي، حدّد التيار أولوياته للمرحلة المقبلة، وفي مقدّمها الانتخابات النيابية المرتقبة في ربيع 2026. وتصدّرت "السيادة والسلاح" سلّم الاهتمامات، حيث طالب التيار الحكومة والعهد وكل من أبرم اتفاق وقف اطلاق النار، إضافة إلى الدول الراعية، بتطبيق القرار 1701 وحصر السلاح بيد الشرعية ضمن استراتيجية أمن وطني شاملة، ترتكز على تقوية الجيش وحماية لبنان.
وإنطلاقاً من المشهد البلدي اليوم، يرسم التيار ملامح المرحلة السياسية المقبلة، مستنداً إلى ركيزتين: تثبيت التمثيل السياسي في المؤسسات، وتحصين مشروعه الإصلاحي والسيادي. وفي مقدمة الأولويات المطروحة:
1. قانون الانتخابات النيابية.
يبدي التيار انفتاحاً على أي نقاش إصلاحي يطوّر القانون الانتخابي، شرط أن لا يُعيد منطق "المحادل" أو يمسّ بخصوصية التمثيل السياسي. كما يرفض أي محاولة للالتفاف على تمثيل الانتشار اللبناني في الدوائر الست، محذّراً من توظيفه في حسابات حزبية ضيقة، كما حصل جزئياً في انتخابات 2022.
2. الإصلاح ومكافحة الفساد.
يُدرج التيار هذا الملف في صلب برنامجه السياسي، إنطلاقاً من إيمانه بأن المدخل إلى استعادة ثقة الناس يمرّ عبر الشفافية، والمحاسبة، وإقرار القوانين الإصلاحية. وسيخوض معاركه التشريعية والرقابية من دون أي مساومة أو شعبوية.
3. إصلاح النظام السياسي واللامركزية الادارية الموسعة.
شدّد التيار على إصلاح النظام السياسي وسدّ الثغرات في تطبيق دستور الطائف، وخصوصاً على صعيد احترام المهل الدستورية، مع التمسك باللامركزية الموسّعة التي يرى فيها أحد المفاتيح الأساسية لإعادة بناء الدولة، وتفعيل التنمية المحلية، وهي بند أساسي في إتفاق الطائف لم يُطبّق بعد. ويعمل التيار على الدفع نحو تشريعات تعزّز صلاحيات البلديات ضمن إطار سيادي موحّد.
4. ملف النازحين السوريين.
يعتبر التيار هذا الملف سيادياً بامتياز، رافضاً تسييسه أو استخدامه كورقة تفاوض. ويدعو إلى خطة وطنية عاجلة تضع المصلحة اللبنانية العليا فوق كل اعتبار لإعادة النازحين إلى بلدهم.
5. حقوق المودعين.
يشدّد التيار على أن أي معالجة للأزمة المالية يجب أن تبدأ من حماية حقوق المودعين، من دون تحميلهم تبعات الانهيار. ويضع هذا الملف في مقدّمة أولوياته الاجتماعية – الاقتصادية، انطلاقاً من مبدأ العدالة المالية وإعادة هيكلة النظام المصرفي.
إنفتاح سياسي مدروس
من وحي نتائج الانتخابات البلدية، يرى التيار أنّ المزاج الشعبي الذي منحه فرصة جديدة، مكّنه أيضاً من إعادة الانخراط في الدينامية السياسية المحلية، حيث فتح قنوات تواصل مع مختلف القوى، بما في ذلك خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الرئيس نبيه بري والقوات اللبنانية. ويعتبر التيار أنّ كسر الحصار الذي فُرض عليه في السنوات الماضية أعاد إليه مشروعية الحوار، وهو ما سيبني عليه في التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، بوصفه طرفاً فاعلاً قادراً على التفاعل والانفتاح والتفاوض من موقع القوة.
إذاً، كشفت نتائج الانتخابات البلدية لعام 2025 عن مشهد سياسي جديد للتيار الوطني الحر، الذي تمكّن من تثبيت موقعه كقوة شعبية ومؤسساتية فاعلة، متجاوزاً محاولات العزل. وفيما تتعاظم التحديات، يظهر التيار عازماً على خوض المواجهة السياسية المقبلة برؤية تقوم على السيادة والإصلاح والمحاسبة، مستنداً إلى تجربة ميدانية وتنظيمية أعادت إليه الثقة بقدرته على التأثير والتجدد.