شهد مسيحيو السودان عصرا ذهبيا وعقودا من الاستقرار اقتربوا فيها من دواوين الدولة، ولمع نجمهم في مجالات اقتصادية وإدارية وتربوية، الا انه في ستينيات القرن الماضي، بدأت حقبة جديدة تنسف كل امكانية للانخراط المسيحي في مجالات كافة، واستهلت الانظمة المتتابعة عمليات اضطهاد بحق المسيحيين، تتمثل بقوانين تمييزية وقانون التأميم صودرت بموجبه ممتلكات للأقباط عام 1970، وجاء إعلان الرئيس السوداني السابق جعفر النميري "سبتمبر" أو أعلان "تطبيق الشريعة الإسلامية"، في عام 1983 الذي اعتبره كتاب ومعارضون مسلمون آنذاك مخالف للشريعة وللإسلام، ومشوه للدين، فوضعت القيود على تشييد الكنائس، وازيل بعضها، وحوصرت ثقافة الاقليات، وهو ما دفع بمسيحيي السودان للانضمام إلى معارضة شعبية تواصلت حتى أيام البشير الذي حاصر المسيحيين بدوره، إلى أن اطاحت به احتجاجات عارمة تطمح للتغيير، الذي يعطي املاً لمسيحيي البلاد لاستيعاد موروثهم الديني.
واليوم يأمل المسيحيون في السودان بأن تشكل العملية الانتقالية السياسية بداية لعهد جديد من حرية الممارسة الدينية وذلك بعد تعرضهم للقمع مدى عشرات السنوات في ظل حكم عمر البشير.
وداخل الأزقة الترابية المنتشرة في أم درمان، قرب الخرطوم، لا يمكن رؤية كنيسة القس يوسف زمغيلة من الطريق.
فالكنيسة تتخذ من حديقة منزل أحد الأصدقاء مقرا، وتضم بضعة مقاعد حديدية ومنبرا وصلبانا رُسمت بعجل على أعمدة يستند اليها سقف مؤلف من ألواح خشبية.
ويقول القس اللوثري "المقر السابق تم تدميره لأننا لم نكن نملك الأوراق اللازمة. دائما ما كانوا يرفضون ... لذا استخدمنا أرض أحد جيراننا".
بناء كنائس
وكان الامتناع عن منح الأقلية المسيحية في السودان تراخيص لبناء كنائس، أداة القمع الرئيسية على مدى سنوات.
ومن أساليب القمع الأخرى فرض الدولة الثقافة الإسلامية التامة في المدارس وأماكن العمل، رغم أن الدستور السابق ينص على حرية الممارسة الدينية.
ويقول جيكوب بولس، المعلم البالغ من العمر 28 عاما في أم درمان "لا يمكن لشبابنا وأطفالنا التعلم عن المسيحية لأن البيئة بأكملها تُعنى فقط بالمسلمين".
وبحسب أرقام حكومية يمثل المسيحيون 3 بالمئة فقط من عدد سكان السودان البالغ 40 مليون نسمة، رغم أن المسؤولين المسيحيين يقولون إن العدد الحقيقي أكبر بكثير.
مختبؤون
وفي السودان أقباط وكاثوليك وأنغليكان وعدد من الطوائف الأخرى، ودفع النظام الإسلامي للبشير بكثيرين منهم إلى الاختباء.
وتم طرد بعض الجمعيات الخيرية الأجنبية التي تساعد مسيحيي السودان في خطوة اتخذت منحى تصعيديا في أعقاب انفصال الجنوب ذي الغالبية المسيحية عام 2011.
وقال الأسقف الأنغليكاني للخرطوم إزكييل كوندو "شعرت السلطات بأن الكنائس والجمعيات الخيرية المسيحية تدعم استقلال جنوب السودان".
واضاف جالسا في مكتبه قبالة كنيسته الكبيرة في وسط الخرطوم "الدولة طبقت باستمرار استراتيجية لإضعاف الكنيسة".
وفي تقريرها عن حرية الممارسة الدينية على مستوى العالم، صنفت جمعية "مساعدة الكنيسة المحتاجة" الاسقفية، السودان في الفئة الأكثر خطورة بين الدول.
تغيير منصف
والرئيس السابق عمر البشير الذي طبق الشريعة الإسلامية بعد توليه الحكم في انقلاب عام 1989، تنحى في نيسان/أبريل هذا العام إثر موجة احتجاجات على خلفية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد.
وأدى مجلس سيادي غالبيته من المدنيين، اليمين الدستورية الأسبوع الماضي بموجب اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم وممثلي حركة الاحتجاج.
وتضمن "الإعلان الدستوري" فترة انتقالية من 3 سنوات، واستبعد حكم الشريعة.
وأعطى ذلك، إضافة إلى رياح التغيير الديموقراطي في السودان، المسيحيين وأقليات أخرى الأمل في حصول التعددية الدينية على حماية أفضل في المرحلة المقبلة.
وقال القس يوسف "نأمل بحصول تغيير. المسيحيون كانوا في التظاهرات، كان لديهم سبب وجيه ... أعتقد أن الأيام الحالكة قد ولت".
وكان يجلس إلى جانبه في الكنيسة المتواضعة القس متى بطرس كومي، وأبدى تفاؤلا مماثلا.
وقال "أقله الآن، يعترف حكامنا بالمسيحيين كجزء من هذا البلد. المسيحيون صلّوا من أجل هذا التغيير لعقود، نحن سعداء لأن هذا التغيير قد أتى".
وفي مؤشر ايجابي آخر، تم تعيين امرأة مسيحية في المجلس السيادي المكون من 11 عضوا من المدنيين والعسكريين، والذي أدى اليمين في 21 آب/اغسطس.
ونظم المسيحيون تظاهرة احتجاج في الخرطوم الأسبوع الماضي للمطالبة بالمساواة في الحقوق، وهو ما كان من الصعب تصوره أثناء حكم البشير عندما كانت الاعتقالات والغرامات شائعة.
تفاؤل حذر
يقول جون نيوتون من الفرع البريطاني لهيئة "مساعدة الكنيسة المحتاجة" "شعرنا بالقلق عندما أعلن المجلس العسكري الانتقالي في ايار/مايو 2019 أن حكم الشريعة سيستمر، لأنه طالما تم استخدام مفهوم متشدد للشريعة مطرقة لضرب المسيحيين".
وأضاف "نشعر بتفاؤل حذر إزاء تمسك المجلس الحاكم الجديد بحرية الممارسة الدينية للأقليات -- كما فعل الدستور الانتقالي عام 2005 - لكن بنهاية الأمر علينا الانتظار لمعرفة تطور الأحداث".
وفيما يأمل الأسقف إزكييل كوندو أن يخفف المجلس السيادي الجديد الضغط عن المسيحيين، يقول إن الأولوية يجب أن تكون إحلال السلام في السودان.
شغف للسلام
وقال "وثيقة بمفردها لا تخفف معاناة الشعب. فمن أجل أن تنجح هذه الفترة الانتقالية يجب أن يحل السلام. ثم تحصل كل الأمور المهمة بشكل أسهل".
وتمزق البلاد عمليات تمرد ونزاعات في العديد من المناطق سكانها من أقليات غير عربية أو غير مسلمة.
وأثار ضم المجلس العسكري لجنرالات تدرجوا في المناصب العسكرية العليا بموافقة البشير، قلقا واسعا من أن لا يكتب للديموقراطية المأمول بها في السودان عمر طويل.
وقال الاسقف "إذا تم تطبيق مبادئ الفترة الانتقالية بشكل حقيقي، سيحصل تغيير".
وتدارك "لكنني لا أزال متشائما نوعا ما لأن العقلية الإسلامية لا تزال موجودة".
بصمات مسيحية
لا بد من الاشارة إلى بصمات المسيحيين في تاريخ البلاد الحديث، حيث أنشأوا أول مدرسة أهلية للبنات عام 1902، إضافة إلى المكتبة القبطية في 1908، التي تضم الكتب التاريخية والمخطوطات.
وفي عام 1924 أنشأو الكلية القبطية للبنات والكلية القبطية للأولاد في عام 1919، وفي حقل الرياضة، اسهموا في تأسيس ناديي المريخ والهلال الرياضيين.
كما شاركو في نضال ضد الاحتلال البريطاني للسودان، وانخرطوا في مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني.
تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد تقدير رسمي لعدد الأقباط في السودان اليوم، إلا أن آخر دراسة نشرها مركز بيو الأمريكي للأبحاث، في العام 2012، أشارت إلى أن عددهم بلغ 1.4 مليون نسمة، منتشرون في معظم مدن السودان الرئيسة، وأكبر تجمع لهم في مدينة عطبرة شمالا، كما يوجد تجمع كبير آخر في أم درمان، غربي العاصمة الخرطوم.
إعداد موقع "اللواء"