شهدت الأشهر الأخيرة تحولًا لافتًا في العلاقة بين أسواق العملات المشفرة وول ستريت، حيث أصبح تحرك البيتكوين والإيثريوم مرتبطًا إلى حد ما في كثير من الأحيان باتجاهات الأسهم الأميركية، لا سيما أسهم التكنولوجيا.
هذا الترابط الجديد لم يكن موجودًا بالقوة نفسها في السنوات الماضية، ويعكس تغيّر طبيعة المستثمرين ودمج العملات الرقمية في محافظ المؤسسات المالية الكبرى، ما حولها من أصول مضاربية إلى أصول استثمارية تُدار بنفس المنطق الذي تُدار به الأسهم التقليدية.
يكمن السبب الأساسي وراء هذا الارتباط في تشابه سلوك المستثمرين بين السوقين. فقد أصبح مزاج المستثمر الواحد هو نفسه الذي يحدد اتجاهات الأسهم والعملات الرقمية، حيث يدفع التفاؤل إلى شراء كلا النوعين من الأصول، بينما يؤدي الخوف إلى بيعهما معًا.
إضافة إلى ذلك، أدت السياسات النقدية الأميركية، خصوصًا توقعات خفض الفائدة، إلى تحريك الأصول عالية المخاطر مثل التكنولوجيا والعملات المشفرة بشكل متزامن، إذ تتغذى هذه الأصول على السيولة الرخيصة التي يوفرها الاحتياطي الفيدرالي.
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أنه:
بعد أسبوعٍ حافلٍ بالتقلبات، انخفض سعر البتكوين قليلاً يوم الاثنين.
فقدت رموز العملات المشفرة أكثر من تريليون دولار من قيمتها السوقية منذ ذروتها في أكتوبر، وفقًا لبنك دويتشه، مما أثار مخاوف من استمرار موجة البيع.
سبق لعشاق العملات المشفرة أن واجهوا هذه التجربة، في " شتاء العملات المشفرة " لعامي 2021 و2022، مع انهيار بورصة سام بانكمان-فريد FTX ، لكن السوق اليوم أكبر بكثير - حوالي 3 تريليونات دولار عالمياً - بعد أن وافقت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية العام الماضي على صناديق بيتكوين المتداولة في البورصة ، وتبنّت إدارة ترامب الرموز الرقمية.
ويشير التقرير إلى أن التعرض المتزايد أدى إلى إثارة المخاوف من حدوث انهيار حاد للعملات المشفرة في وول ستريت هذه المرة.
ونقل عن كبيرة مسؤولي الاستثمار في مورغان ستانلي لإدارة الثروات، ليزا شاليت، قولها: "لم تعد هذه فئة أصول للهواة"، فقد أسهمت شركات إدارة الأصول العملاقة، بما في ذلك بلاك روك وفيديليتي، في انتشار العملات المشفرة. كما قامت جامعة هارفارد والبنك المركزي التشيكي بتخزين العملات الرقمية.
تشير شاليت إلى أن صعود صناديق الاستثمار المتداولة المرتبطة بالبتكوين وغيرها من الأصول الرقمية "أدى إلى إضفاء طابع ديمقراطي على الملكية". كما أدى إلى اتساع نطاق المخاطر.
ارتباط وثيق
يقول رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro، ميشال صليبي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
الأشهر الأخيرة شهدت ارتباطاً طردياً واضحاً بين مؤشرات وول ستريت وسوق العملات المشفّرة وعلى رأسها "بيتكوين"، وهو ارتباط لم يكن بهذه القوة في السنوات الماضية، لكنه برز مؤخراً نتيجة مجموعة عوامل جوهرية.
العامل الأول يتمثل في تحوّل العملات المشفّرة من أصل مضاربي بحت إلى أصل استثماري، خاصة بعد دخول المؤسسات المالية والصناديق الكبرى إلى السوق.
"قبل سنوات، كان مستثمرو العملات المشفّرة مختلفين تماماً عن مستثمري أسهم التكنولوجيا، أما اليوم فأصبح المستثمر ذاته يشتري أسهماً في شركات التكنولوجيا ويستثمر في بيتكوين أو إيثريوم، ما خلق حركة تدفقات رأسمالية موحّدة بين السوقين".
أما العامل الثاني فهو سيطرة المزاج العام على السوقين معاً، حيث أصبح مزاج المستثمر في وول ستريت هو نفسه الذي يحدد اتجاهات العملات المشفّرة.
"التفاؤل كان يعني شراء الأسهم والعملات المشفّرة، والخوف يعني الهروب منهما معاً، ما جعل مؤشرات الخوف والجشع تتحرك بشكل متزامن بين السوقين".
العامل الثالث يتمثل في الرهان المشترك على سياسات الاحتياطي الفيدرالي، خاصة توقعات خفض أسعار الفائدة.. الأصول عالية المخاطر -مثل التكنولوجيا والعملات المشفّرة- تتغذى على "السيولة الرخيصة"، وبالتالي "عندما يتوقع المستثمرون أن الفيدرالي سيخفّض الفائدة، ترتفع أسهم التكنولوجيا وتتبعها العملات المشفّرة".
كما يشير إلى أن دخول المؤسسات الاستثمارية الكبرى لعب دوراً محورياً، سواء عبر الصناديق المتداولة أو صناديق التحوط المتخصصة بالكريبتو، وهو ما ولّد تدفقات ضخمة عززت الترابط في سلوك التداول بين الأسهم والعملات المشفّرة، خصوصاً في فترات ارتفاع أو انخفاض شهية المخاطر.
ولم يغفل صليبي تأثير صعود الذكاء الاصطناعي، مؤكداً أن تسارع الاستثمار في هذا القطاع رفع أسهم التكنولوجيا، ومعها ارتفع الطلب على الأصول المرتبطة بالمستقبل الرقمي، ومن ضمنها العملات المشفّرة.
علاقة طردية
يوضح المدير التنفيذي لشركة V I Markets، أحمد معطي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن:
العلاقة بين العملات المشفرة و"وول ستريت" أصبحت علاقة طردية؛ بسبب ما يُعرف بانكشاف الأسواق على بعضها البعض.
عندما تحدث تراجعات في سوقٍ معينة، يضطر بعض المستثمرين أو صناديق الاستثمار إلى بيع أصول في سوقٍ أخرى لتعويض الخسائر، مما يجعل تحركات الكريبتو والأسهم الأميركية مترابطة.
ويضيف: دخول الصناديق الاستثمارية التقليدية إلى سوق العملات المشفرة بعد القوانين الجديدة، لا سيما في الولايات المتحدة، عزّز هذا الترابط. كذلك، ارتباط بعض العملات مثل البتكوين والإيثريوم بشركات مدرجة في وول ستريت (مثل MicroStrategy) جعل العلاقة أقوى.
ويوضح أن قرارات الفيدرالي الأميركي بشأن الفائدة تؤثر في السوقين معًا: خفض الفائدة يزيد السيولة فترتفع السوقان، والعكس.
مخاوف الفقاعة
وفقدت بتكون معظم مكاسبها السنوية خلال الأسابيع الأخيرة. ويأتي هذا الانخفاض الحاد في الوقت الذي تعاني فيه وول ستريت من قلقٍ بشأن احتمال وجود فقاعة في أسهم التكنولوجيا الصناعية، مما دفعها إلى الابتعاد عن الأصول التي يُنظر إليها على أنها تنطوي على مخاطر أكبر، وفقًا لما نقلته "سي بي إس" عن محللين.
كما يتوخى المستثمرون الحذر نظراً لمؤشرات ضعف سوق العمل، وتوقعات قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة الشهر المقبل، حيث يتوقع المزيد من الاقتصاديين الآن أن يُحجم الاحتياطي الفيدرالي عن خفض أسعار الفائدة.
ونقلت الشبكة عن الرئيس التنفيذي لشركة Function للعملات المشفرة، توماس تشين ، قوله: "المستقبل غامض.. يبدو الأمر وكأنه يعود إلى السؤال: هل أرغب حقًا في الاحتفاظ بعملة بيتكوين في ظل هذه الظروف؟"
تحول بنيوي
بدوره، قال خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في جامعة سان هوزيه الحكومية بولاية كاليفورنيا، الدكتور أحمد بانافع:
الترابط المتزايد بين العملات المشفّرة والأسواق المالية الأميركية أصبح يشكّل تحولًا بنيويًا في طبيعة الكريبتو كأصل مالي.
هذا الارتباط يعبّر عن انتقال العملات الرقمية من مرحلة "الانفصال" عن النظام المالي إلى مرحلة "الاندماج الكامل" داخله.
البتكوين وغيرها من العملات المشفّرة كانت تُسوَّق في بداياتها كأصول بديلة توفر حماية من التضخم وتعمل خارج سلطة البنوك المركزية. لكن دخول المستثمرين المؤسسيين غيّر هذه المعادلة بالكامل، حيث أصبحت العملات الرقمية تُتداول داخل المحافظ الاستثمارية بنفس المنطق الذي تُدار به الأصول عالية المخاطر في وول ستريت.
السياسة النقدية الأميركية تمثل العامل الأكثر تأثيرًا في هذا الارتباط. فعندما يميل الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيف السياسة النقدية، تزداد شهية المخاطرة وتتدفق السيولة نحو الأسهم والعملات المشفّرة معًا. وفي المقابل، تتراجع هذه الأصول بشكل متزامن عند ارتفاع الفائدة وانحسار السيولة.
ويؤكد أن دخول صناديق التحوّط والبنوك الاستثمارية إلى سوق الكريبتو وحّد السلوك الاستثماري بين الجانبين، حيث أصبحت المؤسسات تتعامل مع العملات الرقمية كأصل قابل للزيادة أو الخفض وفق سياسات إدارة المخاطر نفسها. كما أسهم إطلاق منتجات مالية مثل صناديق المؤشرات المتداولة في دمج الكريبتو ضمن بيئة تداول منظمة تحكمها قرارات آلية وتحليلات كمية شبيهة بتلك المستخدمة في أسواق الأسهم.
ويشدد على أن البيئة التنظيمية تُضفي مزيدًا من الترابط، إذ إن القرارات الصادرة عن الجهات الرقابية الأميركية -مثل موافقات هيئة الأوراق المالية على صناديق البتكوين- تدفع العملات المشفّرة للارتفاع، وهو ما ينعكس فورًا على أسهم شركات التكنولوجيا المرتبطة بالقطاع.
ويلفت إلى أن العملات المشفّرة أصبحت مؤشرًا مضخّمًا لحالة السوق؛ فهي أكثر حساسية للتقلبات وأكثر استجابة لشهية المخاطرة مقارنة بالمؤشرات التقليدية مثل ناسداك.
