في خضم التجاذبات السياسية التي تشهدها واشنطن بين الحزبين الرئيسيين حول الموازنة الفيدرالية، تبرز التساؤلات حول كلفة "الإغلاق الحكومي" وتأثيره على أكبر اقتصاد في العالم. فبينما تعاملت الإدارات الفيدرالية مع تبعات تعليق عدد من الخدمات والبرامج، تبقى الأنظار متجهة إلى ما يمكن أن يخلفه هذا التعطيل المؤقت على النشاط الاقتصادي العام، وعلى ثقة المستهلكين والشركات في آن واحد.
وتتباين تقديرات المحللين بشأن مدى الضرر الاقتصادي، إذ يرى بعضهم أن الأثر المباشر محدود ومؤقت، في حين يحذر آخرون من أن الارتباك الذي يصيب البيانات الرسمية خلال فترة الإغلاق قد يعمّق حالة الضبابية التي يعيشها الاقتصاد الأميركي أصلاً. ويؤكد خبراء أن هذه الفترة الحساسة، التي تتزامن مع تباطؤ التوظيف وصعوبة احتواء التضخم، تزيد من هشاشة التوازن الاقتصادي وتحد من قدرة صناع القرار على تقييم المسار الصحيح للسياسات النقدية والمالية.
كما يلفت اقتصاديون إلى أن الإغلاق الأخير لا يُقاس فقط بما سببه من توقف إداري أو تأخير في الرواتب، بل بما يتركه من أثر نفسي طويل المدى على الأسواق، حتى بعد توقيع الرئيس ترامب قانون الإنفاق لإنهاء الإغلاق. فالمخاوف من تكرار هذه الأزمات تضعف ثقة المستثمرين في استقرار السياسة المالية الأميركية، وتفتح الباب أمام مزيد من التقلبات، سواء في الداخل أو عبر النظام المالي العالمي الذي يعتمد بدرجة كبيرة على قوة الدولار واستقرار الاقتصاد الأميركي.
وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الأربعاء، على مشروع قانون تمويل لإنهاء أطول إغلاق للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.
وافق مجلس النواب الأميركي في وقت سابق من مساء الأربعاء على الإجراء الذي من شأنه تمويل العمليات الحكومية حتى نهاية يناير بأغلبية 222 صوتا مقابل 209 أصوات.
قال ترامب قبل التوقيع على مشروع القانون في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض لإعادة فتح الحكومة بعد 43 يوما: "لقد حاول الديمقراطيون ابتزاز بلادنا".
كان الديمقراطيون قد عرقلوا تمرير مشروع قانون التمويل حتى يوم الأحد، عندما وافقت كتلة من كتلة الحزب في مجلس الشيوخ على دعم تدبير تمويل جديد في تلك الغرفة، على الرغم من أنه لا يتضمن تمديد الاعتمادات الضريبية لقانون الرعاية الميسرة.
مدى الضرر
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أنه
من الصعب تحديد مدى الضرر الذي ألحقه الإغلاق بالاقتصاد الأميركي.
من المرجح أن يكون التأثير مؤقتاً في الغالب.
لكن الإغلاق سيترك ضباباً في البيانات في وقت غير مؤكد (تسوده حالة من عدم اليقين) بالنسبة للاقتصاد.
ويشير التقرير إلى أن أطول إغلاق حكومي مُسجَّل أثّر على الاقتصاد سلباً. لكن الآثار المُدمِّرة للإغلاق، بالإضافة إلى اضطرابات البيانات التي نتجت عنه، من المُرجَّح أن تُصعِّب تحديد حجم هذا الأثر.
الضرر الاقتصادي
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets جو يرق، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
"الضرر الذي لحق بالاقتصاد الأميركي سيكون على المدى القصير فقط، إذ نتوقع نموًا ضعيفًا خلال الربع الرابع من العام.
كانت هناك تقديرات تشير إلى أن الإغلاق الحكومي قد يكلّف الاقتصاد نحو 15 مليار دولار بالأسبوع.
بعض هذه الأضرار أصبح نهائيًا بالفعل، لكن جزءًا منها يمكن تعويضه في الربع المقبل".
ويتابع: "اليوم، رأينا الدائرة الاقتصادية في البيت الأبيض تتحدث عن نمو يتراوح بين 3 بالمئة و4 بالمئة في الربع الأول من عام 2026، إلى جانب بعض التحفيزات الاقتصادية التي يخطط لها الرئيس ترامب، من بينها مساعدات بقيمة 2000 دولار للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وهو ما من شأنه إنعاش الاقتصاد الأميركي".
يؤكد يرق أنه "مع الرئيس ترامب، نرى عادةً أضرارًا مرحلية قصيرة الأجل، لكنها تقابلها إيجابيات إضافية على المدى الطويل. ومع بداية صدور المؤشرات الاقتصادية المقبلة، سنرى الأثر الفعلي لتلك التطورات على الأداء الاقتصادي"، مضيفاً: "أعتقد بأن هذا سيُشجّع الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة في اجتماع ديسمبر، وهو ما سيُعطي دفعة إضافية للناتج القومي الأميركي".
جولة جديدة من الاضطرابات
ويشير تقرير لـ "إي بي سي نيوز" إلى أنه:
انتهاء الإغلاق الحكومي سيؤدي في النهاية إلى عودة مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين إلى العمل، وتمويل كوبونات الطعام، وتخفيف الاضطرابات الكبرى في السفر.
إعادة الفتح تتجنب الركود الذي ربما حدث في حالة الإغلاق المطول الذي استمر لأسابيع أو أشهر أطول، وفق محللين.
في غضون ذلك، قال المحللون إن عودة رواتب الموظفين الفيدراليين المتأخرة واستئناف استحقاقات برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP) من شأنهما أن يُعوّضا معظم الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الإغلاق الحكومي.
وقد جاء الإغلاق في لحظة حساسة بالنسبة للاقتصاد الوطني، حيث أدى تباطؤ التوظيف إلى إثارة المخاوف من حدوث ركود، كما ثبت أن احتواء التضخم بالكامل أمر صعب.
ونقل التقرير عن أستاذ الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس، جيرالد إبستاين، قوله: "فتح الحكومة أبوابها وعودة الناس إلى أعمالهم، سيمنع ذلك ما كان ليُصبح ركودًا اقتصاديًا حادًا لولا ذلك". وأضاف: "مع حلول يناير، قد نعود إلى نفس الوضع المأزوم".
وحذر بعض المحللين من أن تكرار الإغلاق الحكومي قد يضع الولايات المتحدة على شفا جولة أخرى من الاضطرابات الاقتصادية.
أزمة سياسية واقتصادية
يقول خبير أسواق المال محمد سعيد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الإغلاق الحكومي الأميركي يُعد الأطول في التاريخ الأميركي الحديث، حيث تجاوز الأربعين يومًا، وجاء في توقيت حساس كان فيه الاقتصاد يُظهر بالفعل علامات تباطؤ وهشاشة واضحة، ما جعله ضربة موجعة لاقتصاد يعاني أصلًا من الضغوط.
ويوضح أن هذا الإغلاق كان شاملاً تقريبًا، ونتج عنه توقف شبه كامل للإنفاق الحكومي، على عكس الإغلاقات الجزئية السابقة، وهو ما جعل تأثيره واسعًا وعميقًا في مختلف قطاعات الاقتصاد الأميركي.
ويضاف أن التقديرات تشير إلى أن كل أسبوع من الإغلاق يكلّف الاقتصاد نحو 15 مليار دولار، ما يؤدي إلى تراجع النمو في الربع الأخير بنحو نقطة إلى نقطتين مئويتين، لتصل وتيرة النمو إلى نحو 1 بالمئة فقط بدلًا من 3–4 بالمئة كما كان متوقعًا.
ويبيّن سعيد أن الأثر الاجتماعي والإنساني كان ملموسًا، إذ تضرر أكثر من مليون موظف فيدرالي بين من أُجبر على التوقف عن العمل ومن واصل عمله دون راتب، ما أدى إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي وتدهور ثقة المستهلكين. كما لحقت الأضرار بملايين المقاولين والشركات المتعاملة مع الحكومة، والتي فقد كثير منها إيراداتها دون تعويض.
ويضيف أن برامج المساعدات الاجتماعية، مثل برنامج الدعم الغذائي (SNAP) الذي يستفيد منه أكثر من 40 مليون أميركي، تعرضت للاضطراب، إلى جانب برامج أخرى للتدفئة والتعليم. كما تلقى قطاع السياحة والسفر ضربة قوية، مع إلغاء آلاف الرحلات وإغلاق المتنزهات الوطنية والمتاحف، ما كبّد الفنادق والشركات الصغيرة خسائر يومية ضخمة.
ويحذر سعيد من أن الضرر الحقيقي يكمن في الآثار طويلة الأمد، حيث توقفت الحكومة عن إصدار البيانات الاقتصادية المهمة مثل التضخم والوظائف، ما جعل الأسواق تسير في "الظلام" وزاد من تقلباتها.
ويؤكد أن الإغلاق كشف هشاشة الاقتصاد الأميركي أمام الانقسامات السياسية، وأضعف ثقة المستثمرين والشركات، وقد يدفع بعض المؤسسات إلى تأجيل خططها الاستثمارية، فضلًا عن احتمالية فقدان الكفاءات من القطاع الحكومي.
