تتجدد الخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع كل محاولة لإعادة ضبط العلاقات الاقتصادية بين ضفتي الأطلسي؛ فبعد أشهر من الهدوء الحذر الذي أعقب توقيع اتفاقٍ مؤقت، عاد التوتر ليخيّم على الأجواء مع طرح واشنطن مطالب جديدة أثارت قلق الأوروبيين وأعادت إلى الواجهة شبح حربٍ تجارية كان يُعتقد أنها وُضعت خلفهم.
تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعادة صياغة قواعد التبادل التجاري مع أوروبا تحت شعار "التجارة المتبادلة والعادلة والمتوازنة"، لكنها في المقابل تفتح ملفات حساسة تتجاوز الرسوم الجمركية إلى التشريعات الرقمية والبيئية والحوكمة، وهو ما تعتبره العواصم الأوروبية تجاوزاً للخطوط الحمراء المتعلقة بالسيادة التنظيمية.
يتعامل الاتحاد الأوروبي بحذر مع الخطوة الأميركية الجديدة، مدركاً أن أي تنازل إضافي قد يُفسَّر على أنه خضوع للضغوط في مرحلة تشهد فيها أوروبا اختبارات صعبة على المستويين الأمني والاقتصادي، خاصة في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتزايد اعتمادها على الدعم الأميركي.
في خضم هذا المشهد المتشابك، يلوح في الأفق احتمال عودة العلاقات التجارية بين واشنطن وبروكسل إلى نقطة الصفر، وسط تصاعد القلق من أن تتحول الخلافات حول "العدالة التجارية" إلى أزمة جديدة تهدد توازن المصالح بين الحليفين التقليديين.
الصين وأوروبا تبحثان عن لغة مشتركة وسط حرب الرسوم الأميركية
خلافات
بحسب تقرير لشبكة "بلومبيرغ" فإن مسؤولين في الاتحاد الأوروبي يرون أن المطالب الأميركية الجديدة بتقديم تنازلات، فضلاً عن تدابير أخرى، من شأنها أن تقوض الاتفاق الأخير الذي أعاد الحلفاء من شفا حرب تجارية.
في وقت سابق من هذا الشهر، أرسلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الاتحاد الأوروبي مقترحا جديدا لتطبيق التجارة "المتبادلة والعادلة والمتوازنة"، وفقا لأشخاص مطلعين على الأمر، تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة المداولات الخاصة.
ونقلت الشبكة عن بعض المصادر قولهم إن مسؤولي الاتحاد الأوروبي يعتبرون هذه المطالب مبالغاً فيها، والتنازلات المقدمة كبيرة. ورفضوا الكشف عن تفاصيل المطالب الأميركية.
وتأتي المطالب الجديدة في الوقت الذي يستعد فيه الجانبان للتفاوض بشأن الخطوات التالية من اتفاق التجارة هذا الصيف، والذي فرض رسوما جمركية بنسبة 15 بالمئة على معظم سلع الاتحاد الأوروبي التي تدخل الولايات المتحدة.
أفادت المصادر بأن الولايات المتحدة تسعى إلى فتح باب لمناقشة تشريعات الاتحاد، بما في ذلك القواعد الرقمية والتكنولوجية، بالإضافة إلى امتثال الشركات واللوائح المتعلقة بالمناخ. وقد أكد الاتحاد الأوروبي مرارًا وتكرارًا أن الحفاظ على الاستقلالية التنظيمية خط أحمر، لكنه سيتشاور مع الولايات المتحدة في كل موضوع.
طريق مسدود
من جانبه، يقول الباحث المتخصص في العلاقات الدولية وتحليل السياسات العامة، أبو بكر الديب، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
التطورات الأخيرة في العلاقات التجارية بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والاتحاد الأوروبي تشير إلى احتمال بلوغ المفاوضات بين الجانبين طريقاً مسدودة.
يأتي ذلك في ظل تصاعد التوتر بشأن المطالب الجديدة التي طرحتها واشنطن، والتي يعتبرها الأوروبيون تجاوزاً للاتفاق الإطاري الذي تم التوصل إليه في يوليو 2025 والمعروف باسم "اتفاق التجارة المتبادلة والعادلة والمتوازنة".
هذا الاتفاق شكّل في حينه انفراجة مؤقتة أنهت أشهرًا من التهديدات المتبادلة بفرض رسوم جمركية، حيث نصّ على فرض رسوم بنسبة 15 بالمئة على بعض الصادرات الأوروبية مقابل رفع تدريجي للقيود على السلع الأميركية. إلا أن الاتفاق ظل هشًّا منذ البداية، لأنه لم يعالج جذور الخلاف، بل أجّلها إلى مفاوضات لاحقة.
ويشير إلى أن الولايات المتحدة عادت مؤخراً بطرح حزمة مطالب إضافية وصفها الأوروبيون بأنها "غير واقعية"، من بينها تعديل القواعد التنظيمية الأوروبية في مجالات الرقمنة والبيئة والحوكمة، وإعادة النظر في سياسات التحول الأخضر، التي تراها أوروبا حجر الأساس لاستقلالها الاقتصادي.
وبينما الإدارة الأميركية من جانبها تعتبر هذه اللوائح عقبة أمام الشركات الأميركية، يرى الأوروبيون أن الهدف الحقيقي هو تقويض السيادة التنظيمية للاتحاد الأوروبي لصالح النموذج الأميركي للسوق.
يبيّن الديب أن الاتحاد الأوروبي يواجه ضغوطًا داخلية متزايدة من قطاعاته الصناعية التي تعتمد على السوق الأميركية (..) ورغم رغبة العواصم الأوروبية في الحفاظ على العلاقات التجارية، فإنها تجد صعوبة في تقديم تنازلات جديدة، خاصة أمام البرلمان الأوروبي والرأي العام اللذين يعتبران أن واشنطن تستغل حاجة أوروبا إلى الدعم الأمني والسياسي في ظل الحرب في أوكرانيا لفرض شروط اقتصادية غير متكافئة.
مطالب واشنطن
ويشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى جانب من مطالب الولايات المتحدة للاتحاد الأوروبي، والمرتبط بحث الاتحاد على تخفيف أجزاء من تشريعاته الخضراء بعد أشهر فقط من الاتفاق على اتفاقية التعريفات الجمركية لتجنب حرب تجارية شاملة عبر الأطلسي.
وبحسب ورقة موقف حكومية أميركية اطلعت عليها الصحيفة، طلبت واشنطن من بروكسل إلغاء المتطلبات المفروضة على الشركات غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتقديم "خطط التحول المناخي".
وطالبت المفوضية أيضا الاتحاد الأوروبي بتغيير التشريعات البيئية المتعلقة بسلاسل التوريد لاستبعاد الشركات الأميركية وغيرها من "الدول التي تتمتع بجهود العناية الواجبة للشركات عالية الجودة".
وتأتي هذه الخطوة في إطار محاولة أوسع نطاقا من جانب واشنطن لدفع البلدان والمؤسسات المالية والشركات إلى التراجع عن سياساتها المتعلقة بتغير المناخ، باستخدام المنتديات الدولية بدءا من البنك الدولي وحتى هيئات تنظيم سوق الأوراق المالية.
كما ضغط الرئيس دونالد ترامب على بروكسل بشأن قوانينها التي تقيد مجموعات التكنولوجيا الكبرى، مما أثار التوتر داخل الاتحاد الأوروبي من أن اتفاقية التجارة التي تم الاتفاق عليها في يوليو لن تصمد.
تتطلب قواعد العناية الواجبة للشركات في الاتحاد الأوروبي، والتي دخلت حيز التنفيذ العام الماضي، من الشركات العاملة في الكتلة تحديد أي أضرار بيئية واجتماعية في سلاسل التوريد الخاصة بها، في محاولة للقضاء على العمل القسري والتلوث .
لكن إدارة ترامب وصفت في ورقتها التشريع بأنه "تجاوز تنظيمي خطير وغير مبرر" و"يفرض أعباء اقتصادية وتنظيمية كبيرة على الشركات الأميركية".
تحديات
من جانبه، يقول خبير الشؤون الأوروبية محمد رجائي بركات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إنّه:
سيكون من الصعب على دول الاتحاد الأوروبي الموافقة على كافة مطالب الرئيس الأميركي، خاصة فيما يتعلق بعدد من الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع الأوروبية المستوردة إلى الولايات المتحدة.
المباحثات بين الجانبين قد تواجه صعوبات كبيرة، ما قد يؤدي إلى استمرار الخلافات بين الطرفين الأميركي والأوروبي.
ويضيف: من مصلحة الولايات المتحدة تجنب القطيعة مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يدفع الرئيس الأميركي إلى التراجع عن بعض مطالبه، بما يفتح الباب أمام التوصل إلى اتفاق خلال الفترة المقبلة. كما يشير إلى أنه من المنتظر أن تتضح ملامح هذا الاتفاق خلال الأيام المقبلة.