يشهد الذهب موجة صعود استثنائية تدفعه إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، وسط تزايد الإقبال العالمي على المعدن النفيس بوصفه ملاذاً آمناً في أوقات الاضطراب، وهو الارتفاع الحاد الذي أثار اهتمام المستثمرين وصنّاع السياسات على حد سواء، مع اتساع الفجوة بين الثقة في الأصول التقليدية ورغبة الأسواق في التحوط من المخاطر.
تتصاعد أسعار الذهب مدفوعةً بمزيج من العوامل الاقتصادية والسياسية، في مقدمتها المخاوف من مستويات الدين الحكومي والتضخم، إلى جانب الشكوك المتنامية بشأن مكانة الدولار الأميركي كعملة احتياطية رئيسية. وقد شكّلت هذه العوامل بيئة مواتية جعلت الاستثمار في الذهب خياراً استراتيجياً للمؤسسات والمستثمرين الأفراد على حد سواء، جنباً إلى جنب ومشتريات البنوك المركزية.
وقد عزز تلك الارتفاعات، الأربعاء، بدء الإغلاق الحكومي الأميركي للمرة الأولى منذ سبع سنوات، بعد أن تجاوز الكونغرس المهلة النهائية للتمويل منتصف الليل. وهو ما يعطي دفعة لأصول "الملاذ الآمن"، ليصل الذهب، بحلول صباح الأربعاء إلى مستويات قياسية عند 3873.46 دولار للأونصة، في حين تجاوزت العقود الآجلة مستويات 3900 دولار للمرة الأولى على الإطلاق.
وقال رئيس الأسواق المؤسسية العالمية في إيه بي سي ريفاينري، نيكولاس فرابيل، إن الذهب يستفيد من "المخاوف بشأن ضعف الدولار، والوضع السياسي مع الجمود بشأن إغلاق الحكومة في الولايات المتحدة، فضلاً عن حالة عدم اليقين الجيوسياسي العام"، وفق ما نقلته رويترز.
وتتجلى قوة الطلب بوضوح في التدفقات الضخمة نحو صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب، إضافةً إلى عمليات الشراء المكثفة من البنوك المركزية حول العالم، والتي رسّخت مكانة المعدن الأصفر كعنصر أساسي في سياسات الاحتياطي النقدي.
كما أسهمت الضغوط الجيوسياسية والتحالفات الدولية المتباينة في رفع جاذبية الذهب، باعتباره خط الدفاع الأول ضد عدم اليقين، ليسجل في سبتمبر أفضل أداء شهري منذ 14 عاماً مخترقاً حاجز الـ 3800 دولار، مسجلا مكاسب شهرية في سبتمبر بأكثر من 11 بالمئة.
ويعزز هذا المسار التوقعات بوصول الذهب إلى مستويات غير مسبوقة خلال الفترة المقبلة، إذ تتلاقى عوامل خفض أسعار الفائدة، وتراجع جاذبية السندات الأميركية، مع اتساع شهية صناديق التحوط والمستثمرين المؤسسيين لزيادة انكشافهم على المعدن النفيس، في وقت يواصل فيه أداءه القوي مقارنة بمعظم الأصول التقليدية الأخرى.
ويشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز"، إلى أن:
أسعار الذهب شهدت ارتفاعا حادا، حيث ارتفعت بنسبة 47 بالمئة هذا العام، مما يضعها في طريقها نحو أفضل أداء سنوي منذ 1979، مدفوعة بالمخاوف بشأن مستويات الدين الحكومي والتضخم، والتساؤلات حول وضع الدولار الأميركي كأصل احتياطي.
يقول محللون ومشاركون في السوق إن المحرك الرئيسي للارتفاع الأخير هو إقبال المستثمرين الغربيين على صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب.
شهدت التدفقات الداخلة إلى صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب أداءً إيجابياً خلال الأسابيع الأربعة الماضية على التوالي، مما رفع إجمالي حيازات هذه الصناديق من الذهب إلى ما يقارب أعلى مستوياتها القياسية خلال فترة الجائحة من حيث الوزن.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، وهو تجمع شركات تعدين الذهب، تقترب التدفقات الداخلة في سبتمبر من 100 طن، وهو أسرع معدل شهري منذ أبريل.
وكان احتمال إغلاق الحكومة الأميركية قد أسهم مطلع الأسبوع في تعزيز سعر الذهب، الذي يُنظر إليه على أنه وسيلة للتحوط ضد الدولار وعدم اليقين المتزايد في النظام السياسي الأميركي.
مستويات قياسية
من جانبه، يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم، طارق الرفاعي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
"الذهب متجه إلى مستوى الأربعة آلاف دولار للأونصة أو حتى ما فوق ذلك".
"قد نشهد لاحقاً فترة تصحيح طبيعية، لكن الاتجاه العام يبقى صاعداً نحو هذا المستوى المذكور".
ويضيف: "هناك سببان رئيسيان وراء هذا الارتفاع القياسي؛ الأول هو استمرار البنوك المركزية حول العالم في شراء الذهب بكميات كبيرة، وهو توجه بدأ منذ أكثر من خمس سنوات وما زال مستمرًا حتى اليوم".
ويتابع: "أما السبب الثاني هو إقبال المستثمرين على الذهب كأداة للتحوط، إذ أصبح الاستثمار فيه خياراً استراتيجياً في ظل حالة عدم اليقين العالمية".
ويؤكد الرفاعي أن "عوائد الذهب خلال السنوات الثلاث الماضية كانت أعلى من كثير من الأصول الأخرى، وهو ما يعزز مكانته كملاذ آمن للمستثمرين".
صناديق التحوط
وزادت البنوك المركزية من حيازاتها من الذهب هذا العام، حيث يُنظر إلى السبائك الذهبية باعتبارها موازنة جذابة للعملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، الدولار الأميركي.
وكان تزايد شهية المستثمرين للذهب واضحاً أيضاً في المواقف بين المستثمرين المضاربين مثل صناديق التحوط ، التي لديها حيازات طويلة الأجل قياسية بلغت 73 مليار دولار، وفقا لأحدث البيانات من لجنة تداول السلع الآجلة.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن كبير استراتيجيي السوق في مجلس الذهب العالمي، جون ريد، قوله إن:
الخوف من تفويت الفرصة، أو ما يعرف بـ"فومو"، بدأ يتسلل إلى السوق، حيث تحاول صناديق التحوط التي كانت تفتقد في السابق تحرك أسعار الذهب الآن الدخول.
أكبر زيادة في صناديق الاستثمار المتداولة كانت في صناديق الاستثمار المتداولة الأكبر حجماً والأكثر سيولة والتي تفرض رسوماً أعلى، والتي يفضلها عادة المستثمرون المؤسسيون وليس المستثمرون الأفراد.
وقال بنك يو بي إس في مذكرة يوم الثلاثاء إنه يتوقع أن يرتفع سعر الذهب إلى 4200 دولار للأونصة بحلول منتصف العام 2026 في سيناريو الصعود، حسبما نقلت شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
ويميل الذهب، الذي يُنظر إليه باعتباره ملاذا آمنا في أوقات عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، إلى تحقيق أداء جيد في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة.
مستويات الـ 4 آلاف دولار
من جانبها، تشير خبيرة أسواق المال، حنان رمسيس، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن ثمة طريقاً ممهدة لوصول الذهب إلى مستوى 4 آلاف دولار للأونصة، بعدما تجاوز حاجز 3,800 أخيراً. ويعود هذا الصعود إلى عدة عوامل رئيسية، أبرزها خفض أسعار الفائدة، وعدم وضوح الرؤية الاقتصادية العالمية، إلى جانب تصاعد التحالفات الدولية المتباينة التي تتسم بالصراع وإبراز القوة والهيمنة.
وتشير في سياق متصل إلى "الضغوط المستمرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، رغم عدم تراجع معدلات التضخم إلى المستويات المستهدفة عند 2 بالمئة، تؤدي إلى تراجع جاذبية السندات الأميركية، وبالتالي تدفع المتعاملين عالمياً نحو الملاذات الآمنة وفي مقدمتها الذهب".
وتتوقع الأسواق احتمالية تزيد عن 91 بالمئة لخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماع الاحتياطي الفيدرالي في أكتوبر، وفقاً لأداة FedWatch التابعة لمجموعة CME .
ويترقب المستثمرون الآن سلسلة من البيانات الأمريكية، بما في ذلك بيانات الوظائف غير الزراعية الصادرة يوم الجمعة، للحصول على المزيد من المؤشرات على صحة الاقتصاد.
وتتابع رمسيس: "كما شهدنا تحول الصين إلى أكبر مقتنٍ للذهب عالمياً، وقد نرى سويسرا قريباً تنافسها عبر تعزيز احتياطياتها من المعدن النفيس باعتباره الملاذ الآمن الأبرز في المرحلة الراهنة".
وتضيف: "لا يمكن أن نغفل توصيات العديد من رجال الأعمال والمستثمرين الكبار بالاستثمار في الذهب (..) باعتباره الضمان الأهم في مواجهة التقلبات الاقتصادية والسياسية".
وبحسب ما نقلته "رويترز" عن كبير محللي السوق في شركة كيه سي إم تريد، تيم ووترر، فإنه "يبدو الآن أن مستوى 4000 دولار هو هدف قابل للتطبيق بالنسبة للذهب في نهاية العام، في حين أن ديناميكيات السوق مثل انخفاض أسعار الفائدة والنقاط الساخنة الجيوسياسية المستمرة تعمل لصالح المعدن النفيس."