منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، دخل الاقتصاد الروسي مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ"اقتصاد الحرب"، حيث تحولت الصناعات الدفاعية إلى قاطرة النمو الرئيسية بدل الاعتماد التقليدي على الطاقة والزراعة والمعادن. ووفق الأرقام الرسمية، بلغ الإنفاق الدفاعي الروسي بين عامي 2022 و2024 نحو 263 مليار دولار، منها 152 مليار دولار في 2024 وحده، ما يعكس التحول البنيوي الذي يشهده الاقتصاد.
هذا التحول كان محوراً أساسياً في مداخلة د. آصف ملحم، مدير مركز JSM للأبحاث والدراسات، خلال حديثه لبرنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، حيث وضع الخطوط العريضة لفهم أثر العقوبات الغربية، ديناميات الصناعات الدفاعية، والتوازن الدقيق بين متطلبات الحرب والحفاظ على الاستقرار الداخلي.
العقوبات الغربية: قنوات التأثير المتعددة
يشير د. ملحم إلى أن العقوبات الغربية التي تجاوزت 24,387 عقوبة، شكلت ضغطاً غير مسبوق على الاقتصاد الروسي. هذه العقوبات لم تكن مجرد قيود مالية بل تعددت قنوات تأثيرها:
سعر الصرف: الروبل تعرض لتذبذبات حادة أضعفت القوة الشرائية للمواطن.
سلاسل الإمداد: الاعتماد السابق على التكنولوجيا الغربية وقطع الغيار خلق اختناقات إنتاجية.
الخدمات المصرفية والتأمين: العزلة المالية زادت من صعوبة الوصول إلى التمويل الخارجي.
ومع ذلك، يرى ملحم أن روسيا عملت على تطوير آليات بديلة لتعويض هذا النقص، مستفيدة من خبرات دول مثل إيران وكوريا الشمالية التي واجهت ظروفاً مشابهة.
عسكرة اقتصاد روسيا .. كيف تحول السلاح لمنقذ اقتصادي؟
عسكرة الاقتصاد: خيار أم اضطرار؟
يوضح ملحم أن عسكرة الاقتصاد الروسي ليست مجرد استجابة ظرفية بل إعداد استراتيجي لمواجهة محتملة مع حلف الناتو. ويستشهد بتصريحات الرئيس فلاديمير بوتين في اجتماع لجنة الصناعات الدفاعية بتاريخ 18 سبتمبر، حيث شدد على اتباع "سياسة متوازنة" تمنع تغليب الصناعات العسكرية على حساب الخدمات الاجتماعية.
لكن التحدي الحقيقي يكمن في تآكل النمو غير العسكري، حيث أعلنت أكثر من 25 ألف شركة إفلاسها منذ بداية الحرب وحتى نهاية 2024، ما يضع علامات استفهام حول قدرة موسكو على الحفاظ على التنوع الاقتصادي.
الأرقام الرسمية تكشف مفارقة لافتة:
60% زيادة في إنتاج الصناعات المرتبطة بالحرب بين 2022 و2024.
إنتاج 2500 صاروخ كروز شهرياً، و4000 عربة مدرعة سنوياً، و1.5 مليون طائرة مسيرة سنوياً.
التخطيط لإنتاج دبابة كل ثلاث ساعات، متفوقة بذلك على قدرات جميع دول الناتو مجتمعة.
4.3% نمو اقتصادي في 2024، يقابله 10.2% معدل تضخم في أبريل.
6% من الناتج المحلي بات يذهب مباشرة للإنفاق العسكري.
يصف ملحم هذا الوضع بأنه "توازن هش"، إذ يوفر دفعة قوية للصناعات الدفاعية لكنه ينهك الميزانية ويقلص إنفاق المواطن العادي.
القوة الصناعية: ورقة التفوق الروسي
يشير د. آصف ملحم إلى أن أحد أبرز عناصر القوة لدى موسكو يكمن في امتلاكها قاعدة صناعية عسكرية متكاملة داخل حدودها، حيث تتوافر الموارد الطبيعية وخطوط الإنتاج والكوادر البشرية المؤهلة محلياً، ما يمنحها قدرة أعلى على الاستجابة السريعة لاحتياجات الحرب. وعلى النقيض، يعتمد حلف شمال الأطلسي على شبكة صناعية متوزعة بين عدة دول، وهو ما يجعل وتيرة الإنتاج أكثر بطئاً وتشابكاً.
ويضيف ملحم أن الحرب في أوكرانيا وفرت لروسيا بمثابة "مختبر مفتوح" لاختبار منظوماتها القتالية تحت أنظار العالم، الأمر الذي عزز من تنافسية منتجاتها في سوق السلاح العالمي. وقد انعكس ذلك عملياً في ارتفاع الطلبات على الصناعات الروسية، إذ سجلت شركة "روس أوبورون إكسبورت" عقوداً للتصدير تجاوزت قيمتها 60 مليار دولار خلال العام الجاري وحده.
يشير د. آصف ملحم إلى أن روسيا دخلت مرحلة جديدة من سعيها نحو ما يمكن وصفه بـ"السيادة الصناعية" في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، ولا سيما في مجال أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة. فبعد سنوات من الاعتماد شبه الكامل على الصين لتأمين هذه المكوّنات الحيوية، شرعت موسكو في ضخ استثمارات كبيرة لتطوير ماكينات إنتاج الرقائق والدارات المتكاملة، في محاولة للحد من التبعية للخارج.
ملحم: الاقتصاد الروسي يشهد تباطؤاً وليس ركوداً
لكن هذا الطموح يصطدم بجملة من التحديات البنيوية. أبرزها النقص في اليد العاملة المتخصصة، بعدما جرى توجيه الجزء الأكبر من القدرات البشرية والطاقات الإنتاجية نحو الصناعات العسكرية. هذا التحول انعكس بشكل مباشر على القطاعات المدنية، حيث تباطأت وتيرة الإنتاج في مجالات مثل الإلكتروميكانيكيات والإلكترونيات المدنية، ما كشف عن هشاشة في قدرة الاقتصاد الروسي على تحقيق التوازن بين متطلبات الحرب والحاجات التنموية طويلة الأمد.
تراجع العائدات النفطية: ثغرة في الميزانية
إلى جانب الضغط العسكري، واجهت روسيا أزمة إضافية مع تراجع عائدات النفط والغاز بنحو 60 مليار دولار بسبب العقوبات وانخفاض الأسعار. ورداً على هذه الثغرة، تدرس موسكو رفع ضريبة القيمة المضافة وخفض النفقات لتوفير نحو 15.5 مليار دولار، لكن ملحم يوضح أن هذه الإجراءات لن تعالج الفجوة بالكامل.
نحو مواجهة مفتوحة مع الناتو؟
يتوقع ملحم أن روسيا تحضر نفسها لصراع طويل المدى مع الناتو، حتى وإن لم يندلع مباشرة. وهو يرى أن القيادة الروسية باتت مقتنعة بأن دول الحلف "لا يمكن الوثوق بها"، وأنها ستستغل أي فرصة لإضعاف موسكو. من هنا، يعتبر أن البقاء في حالة استنفار دائم بات جزءاً من العقيدة الاقتصادية والعسكرية الروسية.
البعد الاجتماعي: الأسعار تتكلم
على المستوى الاجتماعي، يقر ملحم بأن المواطن الروسي بدأ يشعر بتآكل قدرته الشرائية، حيث تراجعت الاستهلاكات الفردية بشكل ملحوظ بين 2023 و2024. ورغم غياب شعور عام بـ"الأزمة الكارثية"، فإن انعكاس الضغوط يظهر بوضوح في أسعار السلع والخدمات.
مستقبل الصناعات العسكرية: فرصة أم عبء؟
التقديرات الصادرة عن مراكز تحليل تجارة الأسلحة العالمية تشير إلى أن روسيا قد تتمكن من تصدير معدات عسكرية بقيمة تتراوح بين 17 و19 مليار دولار سنوياً في السنوات الأربع الأولى بعد انتهاء الحرب. ويرى ملحم أن هذا المسار يمكن أن يعيد روسيا إلى قائمة أكبر مصدري السلاح عالمياً.
لكن السؤال الأعمق: هل هذا الاعتماد على الصناعات العسكرية سيضمن استدامة اقتصادية، أم أنه مجرد دورة مرتبطة بظروف الحرب؟
اقتصاد روسيا على مفترق طرق
ترسم تصريحات د. آصف ملحم صورة مركبة لاقتصاد روسي يعيش لحظة مفصلية. فمن جهة، تشهد الصناعات الدفاعية طفرة غير مسبوقة أعادت موسكو إلى واجهة القوة العسكرية العالمية. ومن جهة أخرى، يتصاعد الضغط الاجتماعي والاقتصادي مع ارتفاع معدلات إفلاس الشركات، وتراجع القدرة الشرائية، وتباطؤ قطاعات النمو غير العسكري.
لم يعد الاقتصاد الروسي محصورًا في أرقام النمو والتضخم، بل بات ساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة موسكو على التكيف مع واقع العقوبات الغربية والحرب المستمرة. والتحدي الأبرز يتمثل في إيجاد معادلة توازن دقيقة بين عسكرة الاقتصاد من جهة، والحفاظ على دورة إنتاجية شاملة ومستدامة من جهة أخرى.
وفي ظل هذا المشهد المزدوج، يظل السؤال مطروحًا: هل سيكون اقتصاد الحرب منصة لانطلاقة جديدة نحو استعادة النفوذ العالمي، أم أنه بداية لمسار طويل من الاستنزاف الداخلي؟