تتصاعد نبرة التحذيرات الدولية من أن الاقتصاد الأميركي يقف على حافة أزمة جديدة قد تمتد ارتداداتها إلى العالم بأسره. فالبنك الفيدرالي يحذر من ضعف النمو تحت ضغط الرسوم الجمركية، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تخفّض توقعاتها إلى 1.5% فقط للاقتصاد الأميركي و2.9%للنمو العالمي، فيما يقدّر صندوق النقد الدولي أن تصل تكلفة هذه الرسوم إلى تريليوني دولار بحلول 2027.
هذه المؤشرات ليست مجرد أرقام عابرة، بل إشارات إلى أن أكبر اقتصاد في العالم يدخل مرحلة هشاشة غير مسبوقة منذ عقود، في وقت تتزايد فيه رهانات المستثمرين على الذهب والفضة، بينما يسجل الدولار إحدى أسوأ خسائره منذ عام 1979. وبينما يبحث العالم عن تفسير لهذه الصورة القاتمة، جاء تحليل الخبير الاقتصادي د. محمد أنيس ليضيف بعداً أعمق: أزمة أميركا لم تعد مالية فقط، بل هي انعكاس لاختلالات سياسية داخلية وصراع جيوسياسي عالمي يعيد تشكيل النظام الدولي.
أميركا أمام أزمة.. تحذيرات لا تتوقف تربك المستثمرين
ديون قياسية.. وحيز مالي مفقود
أول ما ركّز عليه أنيس هو البعد الهيكلي لأزمة الاقتصاد الأميركي: الديون. ففي عام 2025، بلغت نسبة الدين الأميركي إلى إجمالي الناتج القومي أكثر من 120 بالمئة. للمقارنة، خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت النسبة أقل من 70 بالمئة.
هذا الفارق يكشف بحسب د. أنيس عن خطورة الموقف: "لو أثّرت الرسوم الجمركية على معدلات النمو واحتاجت الحكومة الأميركية إلى برامج تحفيز أو إنفاق إضافي، فلن يكون هناك حيز مالي لذلك"، يقول. ببساطة، القدرة على الاستدانة لم تعد متاحة كما في السابق، وهو ما يزيد احتمالات الركود ويفاقم التأثيرات المالية.
بكلمات أخرى، الولايات المتحدة تدخل أي أزمة جديدة مثقلةً بتركة ضخمة من الديون، دون أدوات مناورة كافية.
أنيس: سياسات ترامب تضر بالثقة في الاقتصاد الأميركي
أسواق متضخمة وفقاعات كامنة
الجانب الثاني الذي يثير قلق أنيس يرتبط بأسواق المال الأميركية. يشير إلى أن مؤشر مضاعف الربحية لستاندرد آند بورز 500 ارتفع إلى نحو 28 بالمئة، في حين أن المتوسط التاريخي لا يتجاوز 15. هذا التضخم في تقييمات الشركات يعكس، بحسبه، "فجوة مقلقة بين الأسعار والقيمة الحقيقية".
الأمر لا يتوقف هنا. فحتى رئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول أبدى تخوفه من أن أي تخفيض متسارع في أسعار الفائدة على الدولار قد يؤدي إلى تفجر فقاعة مالية جديدة. المفارقة أن خفض الفائدة، الذي عادة ما يُنظر إليه كأداة لتحفيز الاقتصاد، قد يتحول في هذه المرحلة إلى عامل يزيد هشاشة الأسواق بدلاً من إنعاشها.
الحسابات السياسية القصيرة الأمد
هنا يدخل البعد السياسي. يرى أنيس أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتصرف باعتباره "رجل سياسة منتخب"، يسعى إلى تحقيق مكاسب آنية مرتبطة بالانتخابات النصفية المقبلة والحفاظ على أغلبية حزبه الجمهوري في الكونغرس.
ترامب – وفق تحليل أنيس – يريد أن يُذكر عهده باعتباره فترة بلغت فيها سوق الأسهم الأميركية أعلى مستوياتها. لذلك يضغط باتجاه خفض أسعار الفائدة ليس فقط لدعم الأسواق، بل أيضاً لتقليل كلفة خدمة الدين الحكومي. غير أن هذا التوجه، كما يحذر أنيس، يحمل في طياته مخاطر طويلة الأمد:
تراجع الثقة في السندات الأميركية.
اهتزاز الثقة في الدولار كعملة احتياطية عالمية.
انكشاف "كيان الدولة الأميركية" أمام صدمات مستقبلية.
المعادلة إذن واضحة: ترامب يسعى إلى تعزيز رصيده السياسي قصير الأمد، بينما تتراكم على الاقتصاد كلفة قد تهدد استقراره لعقود مقبلة.
بين أزمة 2008 وتعقيدات 2025
قد يظن البعض أن التحذيرات الحالية مجرد نسخة مكررة من أزمة الرهن العقاري عام 2008. لكن أنيس يرى العكس تماماً: "أزمة 2008 أسهل كثيراً في التعامل معها من الوضع الحالي"، يقول. السبب؟ أنها كانت أزمة قطاع محدد (العقارات والرهون)، بينما الأزمة الراهنة متشابكة ببنية النظام العالمي ذاته.
اليوم، التحدي لم يعد محصوراً في مؤشرات مالية داخلية، بل يتشابك مع ملفات جيوسياسية كبرى:
الحرب الأوكرانية وما تفرضه من استقطاب بين الغرب وروسيا.
صعود الصين كلاعب اقتصادي وعسكري يحاول كسر الهيمنة الأميركية.
حالة "خفوت نسبي لنجم أميركا" مقابل "صعود نسبي للنجم الصيني"، على حد وصف أنيس.
بكلمات أخرى، العالم يقف على أعتاب إعادة تشكل للنظام الدولي، حيث الاقتصاد مجرد واجهة لصراع أعمق يتجاوز الأرقام.
ماذا عن الشرق الأوسط؟
في ظل هذه الصورة المعقدة، ما الموقف الذي يجب أن تتبناه الدول العربية؟ يقدّم أنيس ثلاث نصائح محورية:
النأي بالنفس: "هذه ليست معركتنا"، يقول بوضوح. الصراع الأساسي يدور بين أميركا، روسيا، والصين، ومن الخطأ أن تستنزف الدول العربية رصيد قوتها في مواجهة ليست طرفاً فيها.
تحقيق مكاسب من الوضع القائم: عبر الاستفادة من حالة الاستقطاب، يمكن للدول العربية أن تعظّم مكاسبها الاقتصادية، سواء عبر الاستثمارات، أو صفقات الطاقة، أو إعادة التموضع الجيوسياسي.
مواكبة التحولات التكنولوجية: هنا يشير أنيس إلى أمثلة واضحة، مثل الاستثمارات الضخمة التي وقعتها الإمارات مع شركات أميركية لاستضافة مراكز بيانات وتطوير نشاط الذكاء الاصطناعي. هذه الخطوات، برأيه، تعكس وعياً بضرورة تحسين موقع الدول العربية في النظام العالمي الجديد، والحفاظ على رصيد قوتها الشاملة.
الكفّة بين واشنطن وبكين
يبقى السؤال المركزي: هل نجحت الصين فعلاً في كسر "القطب الواحد" الأميركي؟
إجابة أنيس تحمل مزيجاً من الواقعية والتدرج: الكفة ما زالت تميل لصالح أميركا، لكن بشكل نسبي آخذ في التراجع، مقابل صعود تدريجي للصين.
دلائل هذا الصعود عديدة:
دخول الصين بقوة إلى سوق السلاح العالمي.
محاولتها لعب دور في أزمات كبرى، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وحتى أميركا اللاتينية.
تعزيز نفوذها الاقتصادي عبر "مبادرة الحزام والطريق" والتوسع في الاستثمارات الاستراتيجية.
النتيجة: حتمية الصدام بين قوة عظمى مسيطرة (الولايات المتحدة) وقوة صاعدة (الصين). صدام قد لا يكون عسكرياً مباشراً، لكنه يتجلى بوضوح في الحرب التجارية، النزاع على التكنولوجيا، والتنافس على النفوذ في المؤسسات الدولية.
اقتصاد على مفترق طرق
تدل المؤشرات مجتمعة على أن الاقتصاد الأميركي لم يعد محصناً كما كان في الأزمات السابقة. فارتفاع الدين العام إلى أكثر من 120 بالمئة من الناتج القومي، وتضخم أسواق المال، وتباطؤ النمو المتوقع إلى 1.5 بالمئة ، كلها إشارات إنذار تتزامن مع ضغوط سياسية داخلية وحالة استقطاب جيوسياسي عالمي متزايد.
تحذيرات الفيدرالي، ومنظمة التعاون الاقتصادي، وصندوق النقد، ليست مجرد توقعات نظرية، بل إنذار مبكر من أزمة مركبة تتجاوز الاقتصاد إلى صميم مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي. وكما أوضح د. محمد أنيس، فإن أزمة 2025 لن تشبه أزمة 2008، لأنها تنبع من تشابكات النظام العالمي ذاته، لا من قطاع بعينه.
أمام هذا الواقع، تبدو الخيارات محدودة: واشنطن مطالبة بموازنة ضرورات الاستقرار الاقتصادي مع حسابات السياسة قصيرة المدى، فيما يتعين على الاقتصادات الأخرى ـ وفي مقدمتها دول الشرق الأوسط ـ أن تحافظ على قوتها الاستراتيجية وتستثمر التحولات التكنولوجية والمالية لتعزيز مواقعها.
العالم يتغير بسرعة، والولايات المتحدة ما زالت في موقع القوة، لكن قدرتها على إدارة الأزمات لم تعد مطلقة. ما ينتظرنا ليس مجرد تقلب اقتصادي عابر، بل اختبار حقيقي لبنية النظام المالي والسياسي العالمي في آن واحد.