يوم الحادي والعشرين من سبتمبر 2025 دخل سجل التاريخ الفلسطيني والعربي من بابه الواسع. ففي سابقة تعكس تحولات في المزاج الدولي، أعلنت بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، فيما تستعد سبع دول أخرى، من بينها فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ، للحاق بالركب خلال الأيام المقبلة.
يوم استثنائي في مسار القضية الفلسطينية
بهذه الخطوة، ارتفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 159 دولة، ما يمثل مكسبًا سياسيًا ومعنويًا ضخمًا لشعب ما زال يعيش تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود. لكن خلف عناوين الاحتفال التاريخي، يطرح سؤال أساسي نفسه: إلى أي مدى يمكن لهذا الاعتراف أن ينعكس اقتصاديًا وتنمويًا على حياة الفلسطينيين اليومية، في ظل قيود الاحتلال وتحديات التمويل الدولي؟
دلالات الاعتراف الدولي: من الرمزية إلى أدوات الضغط
الاعتراف من دول كبرى وفاعلة في النظام الدولي ليس تفصيلاً صغيرًا. فهو يفتح الباب أمام فلسطين للانضمام بسهولة أكبر إلى المعاهدات والمنظمات الدولية، كما يسهل الحصول على مساعدات إنسانية وتنموية كانت تعرقلها في السابق الحسابات السياسية.
كذلك، يمهد هذا الاعتراف الطريق لتوقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية، ويمنح الشرعية للمؤسسات الفلسطينية في المحافل العالمية. غير أن هذه الفوائد تظل مشروطة بمدى استعداد المجتمع الدولي لترجمتها من نصوص سياسية إلى خطوات عملية على الأرض، وهو ما يبقى مرهونًا بتعقيدات المشهد الإسرائيلي والأميركي.
الدولة الفلسطينية تحصد اعترافات تاريخية
فاتورة الصراع: تريليونا دولار وخسائر بشرية فادحة
لا يمكن فهم قيمة الاعتراف الدولي دون النظر إلى التكلفة الباهظة التي دفعها الفلسطينيون والمنطقة بسبب الصراع الممتد. الأرقام صادمة:
2 تريليون دولار خسائر إجمالية منذ عام 1946.
تريليون دولار أنفق على البنية التحتية والمساعدات الإنسانية والتسلح والدعم الاقتصادي.
تريليون دولار آخر ضاع نتيجة غياب الاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية.
أما الكلفة البشرية، فهي الأثقل: نحو 200 ألف قتيل فلسطيني، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والأسرى.
ورغم هذا النزيف، فإن الأبحاث تشير إلى أن تحقيق تسوية سياسية قد يدر على المنطقة 220 مليار دولار خلال عشر سنوات، وهو ما يكشف بوضوح أن كلفة السلام أقل بكثير من كلفة استمرار النزاع.
الاعتراف خطوة أخلاقية.. لكن الاقتصاد مرهون بالاحتلال
قدّم أستاذ العلوم المالية في الجامعة العربية الأميركية، د. نصر عبد الكريم، قراءة واقعية للتطورات خلال حديثه لبرنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية.
عبد الكريم: الاقتصاد الفلسطيني رهينة لسياسات إسرائيل
يقول عبد الكريم إن الاعتراف الدولي يمثل "خطوة معنوية وأخلاقية كبيرة"، لكنه يشدد على أن الاقتصاد الفلسطيني لن ينهض تلقائيًا بفعل هذه الاعترافات.
"المشكلة ليست في قبول المجتمع الدولي للفلسطينيين، بل في العقبات التي يضعها الاحتلال الإسرائيلي، والتي عطلت تطور الاقتصاد الفلسطيني لعقود طويلة، وتسببت بدمار متكرر خاصة في قطاع غزة."
من وجهة نظره، الأمر يتوقف على سلوك إسرائيل من جهة، وسلوك الدول المعترفة من جهة أخرى:
هل ستبقى الاعترافات مجرد بيانات سياسية؟
أم ستترجم إلى ضغوط اقتصادية وعقوبات على إسرائيل لإجبارها على التراجع عن سياسات الضم والاستيطان؟
الصندوق المالي: بارقة أمل أم مجرد وعود؟
وسط هذا الجدل، يبرز مقترح إنشاء صندوق شهري بقيمة 200 مليون دولار لدعم السلطة الفلسطينية كاختبار جدي لمدى جدية المجتمع الدولي.
يرى عبد الكريم أن هذا الصندوق يمكن أن يساهم في ضخ السيولة وتخفيف الأزمة المالية الخانقة التي تعانيها السلطة، نتيجة احتجاز إسرائيل لعائدات الضرائب.
"إذا أقر الصندوق من السعودية والنرويج وفرنسا وإسبانيا، فسيكون ذلك خطوة ملموسة تعكس إرادة حقيقية لدعم الفلسطينيين، وليس مجرد تضامن لفظي."
لكن نجاح هذه المبادرة مرهون بقدرة الدول المانحة على حماية الأموال من التعطيل الإسرائيلي، وضمان توجيهها لمشروعات تنموية حقيقية.
40 مليار دولار مساعدات.. أين ذهبت؟
منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، تلقى الفلسطينيون نحو 40 مليار دولار على شكل مساعدات دولية. لكن بحسب عبد الكريم، ما يقرب من 70 بالمئة من هذه الأموال استفاد منها الاقتصاد الإسرائيلي بشكل مباشر، سواء عبر الشركات المزودة للسلع والخدمات أو بسبب القيود التي فرضها الاحتلال على آليات صرفها.
وبالتالي، بقيت المساعدات محصورة في إطار "إغاثي" لا يسمح ببناء مؤسسات دولة قادرة على الاستمرار. ومع كل جولة إعادة إعمار في غزة، تتكرر المعضلة نفسها: إنفاق هائل يذهب أدراج الرياح مع كل حرب جديدة.
هنا يطرح السؤال الأكبر: هل يمكن للاعتراف الدولي أن يغير هذه المعادلة البنيوية، أم أن الاقتصاد الفلسطيني سيظل أسير قيود الاحتلال؟
موقف نتنياهو والرهان على ترامب
أحد المحددات الأساسية لمستقبل هذا الاعتراف يتمثل في ردة فعل الحكومة الإسرائيلية اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو.
عبد الكريم يستبعد أن يتخذ نتنياهو خطوات دراماتيكية مثل ضم شامل أو فك ارتباط أحادي، لكنه لا يستبعد تسريع الاستيطان أو ضم مناطق محدودة مثل الأغوار.
"نتنياهو ليس بن غفير ولا سموتريتش، بل سياسي براجماتي يحسب الربح والخسارة. وهو بانتظار ما ستقرره إدارة ترامب قبل أن يغامر بخطوات قصوى قد ترتد عليه دوليًا واقتصاديًا."
ويشير الخبير إلى أن ترامب، رغم انحيازه التقليدي لإسرائيل، يدرك أن مصالح بلاده مع الدول العربية والأوروبية قد تحد من اندفاعه نحو دعم سياسات إسرائيلية متطرفة.
في المقابل، لا تبدو إسرائيل في وضع اقتصادي مريح.
تقارير رسمية كشفت عن تراجع الصادرات الإسرائيلية بنسبة 15 بالمئة لأوروبا و20 بالمئة لأميركا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
احتجاجات داخلية بدأت بالتصاعد على خلفية الأزمة المعيشية، شارك فيها اتحاد العمال والصناعيون.
أكثر من 80 اقتصاديًا إسرائيليًا وجهوا رسالة تحذير إلى نتنياهو بشأن خطورة المسار الحالي.
هذه المؤشرات قد تشكل بيئة مناسبة لتفعيل الاعترافات الدولية وتحويلها إلى أدوات ضغط، خاصة إذا تطورت إلى مقاطعات تجارية أو مراجعات لعقود الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
ثلاثة متغيرات حاسمة في المشهد المقبل
لخص عبد الكريم المشهد في ثلاثة عناصر أساسية يجب مراقبتها:
الاحتجاجات الداخلية في إسرائيل بسبب الأزمة المعيشية.
كلفة العدوان في غزة والضفة، وما يترتب عليه من خسائر بشرية واقتصادية.
الضغط الدولي، سواء عبر مراجعة الاتفاقيات أو عبر العقوبات الاقتصادية.
هذه العوامل مجتمعة قد تجبر حكومة نتنياهو على إعادة حساباتها، خصوصًا إذا تزايدت الخسائر الاقتصادية وأثرت على موقع إسرائيل في الأسواق العالمية.
سيناريوهات المستقبل: بين الرمزية والتحول
يمكن رسم ثلاثة مسارات محتملة:
السيناريو الأول: الاعترافات تبقى رمزية، دون تأثير اقتصادي مباشر، مع استمرار إسرائيل في فرض وقائع جديدة على الأرض.
السيناريو الثاني: يتحقق تقدم جزئي بفضل الصندوق المالي والمساعدات، لكن يبقى الاقتصاد الفلسطيني محاصرًا بالقيود الإسرائيلية.
السيناريو الثالث: الاعترافات تتحول إلى أدوات ضغط اقتصادي، تترافق مع مقاطعات أوروبية وأميركية للصادرات الإسرائيلية، ما يدفع نحو تسوية سياسية تفتح الباب أمام مكاسب اقتصادية تقدر بـ220 مليار دولار في عشر سنوات.
بين الأمل والامتحان
اعترافات بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال بدولة فلسطين ليست مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل نقطة تحول في مسار القضية. لكنها في الوقت ذاته امتحان للمجتمع الدولي: هل يملك الشجاعة لترجمة كلماته إلى أفعال، أم سيكتفي برفع الشعارات؟
الفلسطينيون اليوم يقفون بين واقع دامٍ كلفهم 200 ألف قتيل ومليارات الدولارات من الخسائر، وبين مستقبل قد يجلب لهم 220 مليار دولار من المكاسب إذا تحقق السلام.
وبين الرمزية والجدوى، يظل الاقتصاد هو الميدان الحقيقي الذي سيحدد إن كان هذا "اليوم التاريخي" بداية لمرحلة جديدة، أم مجرد فصل آخر في مسلسل الوعود المؤجلة.