يشهد عالم المال بين الحين والآخر موجات صعود قوية تجعل شاشات التداول ساحة لمزيج من الطموح والقلق، وخلال هذه الفترات تتكرر ظاهرة نفسية تفرض نفسها بقوة، حيث يجد المستثمرون أنفسهم أمام سؤال جوهري: هل يلحقون بالركب مهما كانت المخاطر، أم يتمسكون بالانضباط بعيدًا عن اندفاع الجماعة؟
تتسع دائرة هذه الظاهرة المرتبطة بالخوف من تفويت الفرصة (الفومو) مع تزايد الحديث عن المكاسب السريعة و"الفرص التي لا تعوّض"، فتتحول الأسواق من أرقام ومؤشرات إلى مشاعر وهواجس. ومع كل قمة جديدة تسجلها الأسهم أو الأصول، يزداد الإحساس بأن التردد قد يعني خسارة فرصة العمر.
يطرح هذا المشهد معضلة حقيقية أمام المستثمرين، بين من يرى في الاندفاع وسيلة للحاق بالثراء، ومن يحذر من أن العاطفة قد تكون أقصر الطرق نحو الخسارة.
ويرجع تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية تسجيل أسواق الأسهم الأميركية مستويات قياسية، الأسبوع الماضي، إلى إصابة المستثمرين بظاهرة الفومو.
تعافت الأسهم الأميركية من عمليات البيع المكثفة التي شهدتها خلال الحرب التجارية في وقت سابق من هذا العام، في موجة دفعت شركات التكنولوجيا العملاقة إنفيديا وألفابيت إلى تقييمات بتريليونات الدولارات، لكنها الآن تجتاح الأسهم من جميع الأشكال والأحجام.
سجل مؤشرا ستاندرد آند بورز 500 للأسهم القيادية وناسداك المركب، اللذان ارتفعا بنسبة 14 بالمئة و17 بالمئة على التوالي هذا العام، مستويات قياسية جديدة يوم الجمعة. كما تجاوز مؤشر راسل 2000 للأسهم الصغيرة ذروته المسجلة في نوفمبر 2024 بعد أن خفض الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة يوم الأربعاء.
يمتد الارتفاع عبر فئات الأصول الخطرة، مع انخفاض تكاليف الاقتراض الإضافية التي تدفعها الشركات الأميركية مقابل سندات الخزانة الأميركية إلى أقل من 0.8 نقطة مئوية، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 1998.
لا يقتصر هذا الارتفاع على الولايات المتحدة، فقد وصل مؤشر MSCI العالمي لجميع الدول، الذي يتتبع أسهم الاقتصادات المتقدمة والناشئة، إلى أعلى مستوى له على الإطلاق. وقد تجاوزت أسهم الأسواق الناشئة، التي تجنبها المستثمرون في السنوات الأخيرة، أداء المؤشر العالمي بحلول عام 2025، في إشارة إلى تزايد إقبال المستثمرين على المخاطرة.
ونقل التقرير عن الرئيس المشارك لتخصيص الأصول في جي إم أو، بن إنكر، قوله "يبدو أن الخوف من تفويت الفرصة هو ما يحدث، والافتراض بأن الجميع يجب أن يكونوا قادرين على الثراء".
ظاهرة نفسية
يقول رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro ،ميشال صليبي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
"تُعتبر ظاهرة الفومو (الخوف من فوات الفرصة) واحدة من أقوى المحركات النفسية في الأسواق المالية، خصوصاً في الفترات الأخيرة التي شهدت ارتفاعات حادة أو أزمات قوية."
"هذه الظاهرة تجعل الأسواق أكثر تقلباً وأقل عقلانية، إذ تدفع المستثمرين إلى الدخول بشكل عاطفي سعياً وراء مكاسب الآخرين، وهو ما يؤدي غالباً إلى موجات صعود حادة يتبعها تصحيحات عنيفة."
"المستثمر المحترف يحاول قدر الإمكان تحييد نفسه عن هذه المؤثرات النفسية، فلا يدخل السوق فقط خوفاً من ضياع الفرصة، ولا ينسحب خوفاً من الخسارة".
"الانضباط وإدارة المخاطر هما السلاح الأهم لمواجهة الفومو".
ويشير إلى أن أبرز مثال حديث كان في أسواق الذهب، إذ وصلت الأسعار إلى مستويات قياسية عند 3700 دولار للأونصة، الأمر الذي دفع كثيراً من المستثمرين الجدد إلى الشراء بدافع الخوف، رغم الإشارات الفنية التي أظهرت حالة تشبع شرائي واضحة، موضحاً أن "هذا الزخم العاطفي ضاعف الطلب بما يفوق المبررات الأساسية، قبل حدوث موجات بيع سريعة تشكل تصحيحاً للأسعار".
سلهب: الأسواق والدولار أمام تحوّل محتمل مع قرار الفيدرالي
ويتابع قائلاً: "الأمر ذاته نشهده في سوق العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين التي تجاوزت 115 ألف دولار وسط توقعات بقمم تاريخية تصل إلى 150 أو 160 ألف دولار، وهو ما غذّى السلوك الجماعي المدفوع بالفومو وضَخَّ تريليونات الدولارات في الأسواق، لكنه في المقابل جعلها أكثر عرضة لتقلبات حادة عند أي إشارة سلبية أو تغيير في السياسة النقدية للفيدرالي الأميركي."
ويؤكد صليبي في ختام تصريحه: "نحذر دائماً المتداولين الصغار وقليلي الخبرة من الانجراف وراء هذه الظاهرة، ونوصي بالتعامل مع الأسواق بعقلانية، مع الالتزام بخطة تداول واضحة وإدارة رشيدة للمخاطر."
المستثمرون الجدد
وبحسب تقرير لمنصة moneysense، فإن
مع صعود الأسواق إلى مستويات قياسية وتصدر أسهم كبرى مثل "إنفيديا" العناوين، يتزايد ضغط الخوف من تفويت الفرصة أو ما يُعرف بالفومو، خصوصاً لدى المستثمرين الجدد الذين يرون أصدقاءهم يتحدثون عن أرباح ضخمة.
هذا الشعور يدفع كثيرين إلى القفز وراء الموجة دون خطة واضحة، وهو ما يحذر منه الخبراء باعتباره أقرب إلى المقامرة منه إلى الاستثمار المدروس.
ويشير الخبراء إلى أن اللحاق بالأسهم عند ذروتها يحمل مخاطر التراجع أو التذبذب، وأن القرارات يجب أن تُبنى على أهداف شخصية وزمنية واضحة، مع إدراك القدرة على تحمل الخسائر.
كما أن التركيز على المدى الطويل والتنويع بين صناديق المؤشرات أو المحافظ المتوازنة يقلل من أثر الخسائر المحتملة، ويمنح استقراراً أفضل من مطاردة الأسهم الفردية.
أما إذا كان المستثمر مصرّاً على اقتناء سهم مرتفع، فيُستحسن أن يخصص له حصة صغيرة لا تتجاوز 1 أو 2% من محفظته. بهذه الطريقة، يمكن الاستفادة من فرص الصعود المحتملة دون أن يعرّض كامل أمواله للخطر، ليبقى الدرس الأساسي: لا تدع الفومو يقود قراراتك، بل اجعل الانضباط والاستراتيجية هما مرجعك في رحلة الاستثمار.
اندفاع
بدوره، يشير خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
ظاهرة الفومو، أو ما يُعرف بالخوف من ضياع الفرصة، باتت أحد أهم المحركات في الأسواق المالية خلال السنوات الأخيرة، حيث تدفع المستثمرين إلى الاندفاع وراء الموجات الصاعدة من دون حسابات عقلانية.
هذه الظاهرة تجلت بوضوح في صعود عملة بيتكوين من نحو 10 آلاف دولار منتصف 2020 إلى 69 ألف دولار في نوفمبر 2021 قبل أن تتراجع بقوة بعد ذلك خلال عام واحد حينها.
كما انعكست في أسواق الأسهم الأميركية مع قفزة سهم GameStop وأسهم الميم بدافع موجة شراء جماعية من الشباب.
حتى أسواق النفط قد تشهد بدورها سلوكًا مشابهاً، بفعل المخاوف من نقص الإمدادات نتيجة الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال.
ويشدّد الخفاجي على أن الفومو لا يعكس قوة اقتصادية حقيقية، بل يمثل حالة نفسية جماعية تقود إلى فقاعات قصيرة الأجل تبتلع السيولة سريعًا وتخلّف خسائر كبيرة عند انحسار الموجة.