في مشهد اقتصادي عالمي شديد التقلب، يعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استخدام سلاح الرسوم الجمركية كأداة سياسية واقتصادية شاملة، تمتد آثارها من أسواق الطاقة إلى توازنات النقد العالمي، ومن المصداقية المؤسساتية في واشنطن إلى ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأكبر في العالم.
وفي مقابلة خاصة ضمن برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، قدّم الرئيس التنفيذي لشركة ويكو للاستشارات الاقتصادية، الدكتور باسم شقفة، قراءة تحليلية جريئة لما سماه "منعطفاً حاداً وخطيراً" في السياسة الاقتصادية الأميركية، محذراً من تداعيات استراتيجية ترامب على استقرار الأسواق العالمية وصدقية المؤسسات الأميركية العريقة، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي ومكتب العمل.
رسوم جمركية بوظيفة سياسية
يرى د. شقفة أن الرسوم الجمركية، والتي فرضتها إدارة ترامب على أكثر من 95 دولة بنسب تتراوح بين 10 بالمئة و50 بالمئة، لم تعد مجرد أداة لحماية الصناعة الوطنية أو ضبط الميزان التجاري، بل تحوّلت إلى وسيلة عقابية سياسية تستهدف الخصوم والحلفاء على حد سواء.
باسم شقفة: الاتفاق التجاري أظهر ضعف أوروبا أمام ترامب
"ترامب يستخدم الرسوم الجمركية كمنصة انتقام أو إذعان، لا كأداة اقتصادية"، بحسب تعبير شقفة، مشيرا إلى فرض رسوم بنسبة 40 بالمئة على البرازيل بسبب ملاحقتها القانونية لرئيسها السابق، وتهديد روسيا بنسبة 100 بالمئة، وتعليق الاتفاق مع كندا فقط بسبب موقفها من القضية الفلسطينية.
وبذلك، تتحول أميركا إلى قوة ضاغطة باستخدام أدوات تجارية، تبتعد بها عن منطق الأسواق الحرّة وتقترب من معادلات الهيمنة الاقتصادية، في لحظة حساسة من إعادة رسم خرائط التحالفات الدولية.
الوظائف الأميركية.. مؤشر تباطؤ أم كبش فداء؟
جاءت بيانات الوظائف الأخيرة مخيبة للآمال، مع إضافة 73 ألف وظيفة فقط—أقل بكثير من المتوقع. بالنسبة لد. شقفة، فإن هذا الرقم ليس استثناءً بل استمرار لنهج طويل منذ عودة ترامب للرئاسة: "منذ بداية ولايته، لم تتجاوز أرقام الوظائف حاجز 200 ألف، وهو ما يعكس حالة تباطؤ هيكلية في سوق العمل الأميركي، لا يجب أن تُفاجئ أحداً."
لكن المفاجئ كان إقالة رئيسة مكتب العمل الأميركي، بتهم غير مثبتة بالتلاعب في البيانات، رغم أنها كانت قد عُيّنت بموافقة 86 عضواً في مجلس الشيوخ من بينهم نائب الرئيس ترامب نفسه.
يقول شقفة: "إذا صدق ترامب وكانت هناك فعلاً تلاعبات، فهذه كارثة تضرب مصداقية المؤسسات. وإذا لم تصدق الاتهامات وكانت الإقالة مجرد أداة سياسية، فهذه كارثة أخطر تضرب استقلالية البنية المؤسسية الأميركية."
الفيدرالي في مرمى النيران
يرى شقفة أن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي أصبحت على المحك. فعلى الرغم من أن رئيس الفيدرالي جيروم باول يلتزم بالبيانات ويتريث في قراراته، إلا أن ضغوط ترامب تتصاعد.
ويؤكد شقفة قائلا: "ترامب يريد خفضاً في الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس، وهو تخفيض جذري. الفيدرالي، من جانبه، يسير وفق بيانات دقيقة وليس وفق إملاءات سياسية".
في حين أن الأسواق تتوقع خفضين للفائدة بنهاية 2025، يشير شقفة إلى أن اللحظة المفصلية ستكون انتهاء ولاية باول في مايو 2026، "وكلما اقتربنا من تعيين شخصية جديدة قريبة من ترامب ومؤيدة للتيسير النقدي، ستسعر الأسواق تخفيضات أكثر حدة، مما يعزز من صعود الذهب والفضة بشكل متسارع".
الذهب والفضة: سباق نحو مستويات غير مسبوقة
استناداً إلى حالة عدم اليقين، يتوقع شقفة أن تسجل أسعار الذهب والفضة قفزات قياسية: "إذا استمرت الضغوط على المؤسسات النقدية وفُقدت المصداقية، قد نشهد الذهب عند 4,000 – 4,500 دولار للأونصة بحلول 2026، والفضة قد تتجاوز 40 دولاراً لتكون الحصان الأسود القادم".
هذا الارتفاع لا ينبع فقط من تذبذب السياسات النقدية، بل من التشكيك في حيادية واستقلالية البنية الاقتصادية الأميركية ككل، مما يدفع المستثمرين إلى الملاذات الآمنة.
تناول شقفة اتفاقية الطاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تلزم أوروبا باستيراد ما قيمته 750 مليار دولار من الطاقة خلال 3 سنوات، باعتبارها غير قابلة للتطبيق فعلياً: "في عام 2024، استوردت أوروبا 74 مليار فقط. لتحقيق الأهداف، عليها مضاعفة استيرادها 4 مرات. من المستحيل أن تفي أميركا أو أوروبا بهذه الشروط، سواء لاعتبارات لوجستية أو اقتصادية."
وأشار إلى أن الطاقة الأميركية الحالية لا يمكنها تغطية هذا الحجم من التصدير، إذ تحتاج أميركا لتوجيه 75 بالمئة من إنتاجها نحو أوروبا، وهو أمر غير عملي دون ضخ استثمارات هائلة وتطوير البنية التحتية.
قنبلة الثقة.. أخطر من الركود
اختتم شقفة حديثه بتحذير عميق: "إذا ترسّخت فكرة أن المؤسسات الأميركية أصبحت تابعة للمزاج السياسي، فإن المستثمرين سيعيدون النظر في الثقة بالديون الأميركية والمؤشرات الرسمية. وهذا أخطر من أي ركود اقتصادي، لأنه يمثل ضربًا للثقة في النظام العالمي برمته."
وأكد أن إعادة رسم خريطة التحالفات الاقتصادية باتت ضرورية، لكن الوقت غير كافٍ. "لذا نشهد توقيع اتفاقيات إذعان، أكثر منها اتفاقيات تجارية قابلة للتنفيذ".
في عهد ترامب، الاقتصاد ليس فقط أرقامًا ونسبًا... بل أصبح أداة للضغط، وللإقصاء، وللنفوذ. تصريحات الدكتور باسم شقفة تضع الإصبع على الجرح: الخطر الحقيقي ليس في تقلبات السوق، بل في فقدان البوصلة المؤسسية. فحين تصبح المؤسسات المالية رهينة القرار السياسي، تبدأ المديونية بالتضخم، والثقة بالتبخر، والأسواق بالذعر.