A
+A
-في لحظة فارقة من عمر الاقتصاد الأميركي، يقف الدولار، أقوى عملة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على عتبة تحوّل عميق قد يُعيد رسم ملامح النظام المالي الدولي.
ففي النصف الأول من عام 2025، تراجع مؤشر الدولار الأميركي بنسبة بلغت نحو 11 بالمئة، وهو الهبوط الأسوأ منذ أكثر من خمسة عقود، مما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية والسياسية، خصوصًا مع ازدياد الحديث عن مستقبل العملة الأميركية كـ"سلاح ناعم" لطالما استخدمته واشنطن في معاركها الاقتصادية والجيواستراتيجية حول العالم.
السبب؟ سلسلة من الأزمات المتشابكة تبدأ من الديْن العام الأميركي الذي تجاوز 37 تريليون دولار، ولا تنتهي عند الحرب التجارية التي يخوضها الرئيس دونالد ترامب مع الشركاء التقليديين والحلفاء الاقتصاديين، ولاسيما رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، جيروم باول.
أزمة ثقة؟ أم تحوّل بنيوي؟
يرى محللون أن ما يمر به الدولار ليس تراجعًا تقنيًا أو طارئًا عابرًا، بل يعكس تحولًا بنيويًا عميقًا في مكانة العملة داخل النظام العالمي. يقول جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets، خلال مداخلة على برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، إن "الضغوط على الدولار بدأت منذ مطلع العام، لكنها تسارعت في الأسابيع الأخيرة، لدرجة أن الانخفاض بلغ 11 بالمئة، بينما شهد المؤشر العام للعملة تراجعًا يقترب من 8 بالمئة في أسبوعين فقط".
ويضيف يرق أن مؤشرات البنوك الكبرى توحي بإمكانية استمرار هذا المسار، حيث "ترى مؤسسات مثل جي بي مورغان ومورغان ستانلي أن الدولار قد يتراجع بين 5 بالمئة و10 بالمئة إضافية خلال 12 شهرًا"، مما يسلّط الضوء على حجم القلق المتنامي في السوق.
ترامب في مواجهة الفيدرالي
من أبرز المحركات لهذا التراجع، بحسب يرق، تصاعد الحرب الكلامية والضغوط السياسية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الفيدرالي جيروم باول. فترامب الذي يسعى لتحفيز الصادرات الأميركية وتقليل عجز الميزان التجاري يدفع نحو إضعاف مقصود للدولار بهدف تعزيز القدرة التنافسية للمنتجات الأميركية في الخارج.
هذا التوجه يتعارض مع مسار الاحتياطي الفيدرالي الساعي إلى إبقاء العملة مستقرة ومحاربة التضخم، وهو ما جعل العلاقة بين المؤسستين تصل إلى نقطة الغليان. يقول يرق: "ترامب يريد دولارًا ضعيفًا ولكن ليس منهارًا، لأنه يعتقد أن ذلك يعطيه قوة تفاوضية في الاتفاقيات التجارية، ويحفّز النمو الاقتصادي عبر التصدير".
الدين العام.. قنبلة موقوتة
لكن ما يثقل كاهل الدولار أكثر هو تسارع نمو الدين العام الأميركي. بحسب تصريحات يرق، ارتفع الدين الأميركي من 23 تريليون دولار عام 2020 إلى أكثر من 37 تريليونًا اليوم، وهو رقم صادم يعكس اختلالات بنيوية في المالية العامة الأميركية.
ويرى يرق أن جزءًا من هذا التصاعد مرتبط بقرارات سياسية مباشرة، مثل الحوافز الضريبية التي أقرّها الكونغرس بمباركة الرئيس ترامب، والتي قد تُضيف بين 3.6 و5 تريليونات دولار إلى الدين في العقد المقبل.
المؤشر الأخطر بحسب يرق هو بلوغ نسبة الدين إلى الناتج القومي حوالي 100 بالمئة مع نهاية السنة، ما يعني أن كل دولار يدخل إلى الاقتصاد الأميركي بات يقابله دولار من الديْن، في صورة تبدو أكثر شيوعًا في الاقتصادات الناشئة لا في أكبر اقتصاد عالمي.
هروب تدريجي من الدولار
الأرقام وحدها لا تكشف الصورة الكاملة. ففي خلفية هذا المشهد، يجري تحول استراتيجي في سلوك البنوك المركزية العالمية التي بدأت تخفّض تدريجيًا احتياطاتها الدولارية. يشير يرق إلى أن هذه الاحتياطات تراجعت بنسبة 20 بالمئة في العقدين الأخيرين، بينما تتجه الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الصين والهند والبرازيل نحو تنويع سلال احتياطاتها بالذهب واليوان واليورو.
ويقول جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets،: "نشهد منذ بداية 2025، تزايد المطالبات من بنك الشعب الصيني بزيادة حصة اليوان في الاحتياطات العالمية، رغم أن نسبته الحالية لا تتعدى 2.3 بالمئة. هذا التحرك الصيني ليس منفردًا، فمجموعة بريكس أيضًا تسعى إلى تطوير بدائل للدولار في التجارة والاستثمار".
الدولار كسلاح.. يفقد فعاليته؟
الصدمة الكبرى لا تكمن فقط في الاقتصاد، بل في السياسة. إذ يكشف يرق أن من أهم أسباب تراجع الثقة بالدولار هو الإفراط الأميركي في استخدام العملة كأداة عقوبات وضغط سياسي، خصوصًا تجاه روسيا والصين وإيران.
يقول: "رأينا كيف تسببت العقوبات في رد فعل معاكس؛ فبدلاً من إخضاع الأنظمة المستهدفة، دفعتها للبحث عن بدائل من خارج النظام المالي الأميركي. وشهدنا ارتفاعًا في الطلب على الذهب بنسبة 27 بالمئة في 2024، واستمرارًا في اتجاه تنويع الأصول بعيدًا عن الدولار".
هذا الاستخدام السياسي للدولار، بحسب يرق، أضر بسمعة العملة وجعلها سلاحًا مزدوج الحدين. ويضيف: "بعض الدول باتت تنظر للدولار كتهديد وليس كملاذ، مما يسرّع اتجاهها لتقليل الاعتماد عليه".
الدولار لا ينهار.. لكنه يضعف
رغم الصورة القاتمة، لا يرى يرق أن الدولار على وشك الانهيار، بل يشدد على أن الولايات المتحدة ما تزال أكبر اقتصاد في العالم، بقدرات مالية وتقنية هائلة، وأسواق استثمار جذابة.
لكن في المقابل، فإن التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على مكانة الدولار وسط تغيرات بنيوية في الاقتصاد العالمي، وتحولات في موازين القوة الجيوسياسية.
ويقول: "أحد أهم عوامل قوة الدولار في 2023 و2024 كان الخوف من الأزمات، ولجوء المستثمرين إلى السندات والأسهم الأميركية. اليوم، مع تزايد العوائد على الأصول الأخرى، وتراجع الثقة بالاستقرار السياسي، قد نرى خروجًا تدريجيًا من الدولار على المدى القصير والمتوسط".
في خضم هذا التحوّل، يبدو أن الملاذات الآمنة بدأت تتعدد، ولم يعد الدولار هو الخيار الوحيد. الذهب يشهد صعودًا متسارعًا، واليوان الصيني يفرض نفسه ولو ببطء، واليورو يعود تدريجيًا للواجهة كخيار احتياطي معقول.
ويرى يرق أن دول الخليج والدول العربية التي ترتبط عملاتها بالدولار، عليها أن تبدأ بوضع خطط تنويع تدريجي، سواء في احتياطاتها أو في تسعير بعض العقود الكبرى، خصوصًا في ظل تقلبات الدولار وارتباطه المباشر بالسياسة الأميركية.
ويختم بالقول: "لا نريد انهيار الدولار، لكن الضعف المدروس قد يكون مصلحة أمريكية، لأنه يفتح فرصًا جديدة للصادرات، ويمنح مرونة تفاوضية. التحدي الآن هو كيف تدير واشنطن هذا التراجع دون فقدان السيطرة".
الدولار يترنح، لكنه لم يسقط. النزيف مستمر بفعل الدين العام، والسياسات التجارية، وسلاح العقوبات، وتراجع الثقة العالمية. وبينما يراهن ترامب على ضعف العملة لتعزيز الصادرات، يرى الفيدرالي الخطر في تضخم غير قابل للسيطرة. وبين هذا وذاك، يتجه العالم نحو واقع مالي جديد يتطلب من الجميع – خصوصًا في المنطقة العربية – إعادة التفكير في سلالهم الاستثمارية وارتباطاتهم النقدية.
فهل يدخل العالم عصر ما بعد الدولار؟ أم أنّ الإمبراطورية الخضراء لا تزال قادرة على الدفاع عن تاجها؟